مقدمة :
الأحاديث الباطلة التي سوف نتكلم عنها هي رُوايات صحيحة من حيث السند ضعيفة من حيث المتن، نسبت إلى النبي ﷺ وتم دسها ووضعها إما عن قصد أو عن جهل، وقد رأينا ببطلانها نسبة إلى قواعد عديدة أهمها قاعدة التوافق مع القرآن الكريم، ثم تعارضها إما مع العقل أو المنطق أو العلم أو معها جميعا.
وقاعدة التوافق مع كتاب الله، للأسف يؤمن بها حتى أولئك الذين يلغون عقولهم ويدافعون عن هذه الروايات بحجة أن أكثر السلف لم يردها وقبل بها، وأن كل ما ورد في "صحاح كتب الحديث" غير قابل للمراجعة، وهو تعسف مرفوض وتنطع ممقوت.
حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم :
كيف قبل عامة المسلمين بعلمائهم وفقهائهم وعوامهم مسألة سحر النبي ﷺ ؟
كيف لأتقى الناس وأكثرهم عبادة أن يُصاب بالسحر ؟؟؟
هل السحر مرض لكي يصاب به كل الناس ؟
لماذا لم يُصَب بالسحر أهل بيت النبي ﷺ أو أصحابه ؟
ما الحكمة من هذه الواقعة إن افترضنا صحتها؟
هل الحكمة هي قراءة المعوذتين كما يزعم بعض أو أكثر المناصرين لهذه القصة ؟
أم الحكمة ذكر الله لتجنب السحر؟؟
إن كان كذلك، فهل النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يذكر الله عز وجل ؟؟ !!!
أي منطق يفرض علينا الافتراء على النبي الأعظم بكل هذه المزاعم، ووضع الرسالة في هذا الحرج ؟
هل لإقناع الناس بفائدة الرقية والتعوذ من السحر وخطره ؟؟
هل كان لابد من سحره لكي نقول له وللناس، اقرؤوا المعوذتين !!!
بالمقابل إذا افترضنا أن الأمر صحيح، ألم يكن من الأجدر أن يذكر القرآن الكريم هذا الحدث المهم ؟
وإذا أخفاه القرآن لحكمة، ألم يكن من اللازم اتباع نفس النهج ؟؟
والسؤال الأهم، هل تكذيب راوي الحديث المزعوم أخطر من اتهام النبي بوقوعه تحت تأثير السحر وبالتالي الإساءة إلى الدين قبل الإساءة إلى النبي ﷺ؟
كل هذه أسئلة ليس لها أجوبة عند الذين يقدسون الموروث وخاصة كتب الأحاديث، ويرفضون فكرة حاجتها إلى غربلة وتصفية من الروايات المدسوسة والموضوعة والمختلقة.
يعتبر هذا الحديث من أخطر الأحاديث التي مُررت على عقول السلف وتم قبولها بشكل ساذج رغم انها تضع الرسالة المحمدية في موضع حرج جدا.
وأستهل به قائمة الأحاديث التي يجب حذفها من سلسلة الروايات الموجودة، لكوني أراه من أبشع ما تم افتراءه من طرف واضعي الأحاديث المختلقة على النبي صلى الله عليه وسلم، كونه يشكل سلاحا بل أكبر سلاح في يد أعداء الإسلام يهاجمون به الرسالة المحمدية.
وقد كان هذا الحديث يؤرقني منذ أن كنت يافعا بل ربما شكل الدافع الرئيسي لانكبابي على دراسة الحديث وانتقادي لما يسمى بعلم الحديث.
وقد قررت أن أجعل حلقة خاصة أعرض فيها مجموعة من الأحاديث الباطلة التي تشوه موروثنا الإسلامي، وتمهيدا للحلقة المقبلة التي سأشرح فيها الدراسة التي خصصتها لما يسمى بعلم الحديث، وكذلك لأوضح من خلال تقديم مثل هذه الأحاديث المزعومة أسباب انكبابي على نقده وأنه ليس فقط من الترف الفكري، بل نابع من حرصي على تبيان الحقيقة من خلال تفكيك زيف ما يسمى بعلم مصطلح الحديث الذي زعموا أنه منهج تصحيحي ، وأن أنصاره ومن يصدقهم إنما كانوا ومازالوا يتبعون وهما كبيرا.
ماذا يقول الحديث ؟
عن عائشة رضى الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بنى زريق يقال له لبيد بن الأعصم , حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله , حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليله , لكنه دعا ودعا ثم قال : ( يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه , أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي , فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال: مطبوب , قال من طبه؟ قال : لبيد بن الأعصم , قال: في أي شيء ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلع نخله ذكر , قال: وأين هو؟ قال في بئر ذروان , فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه فقال : يا عائشة : كأن ماءها نقاعة الحناء أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين , ) قلت : يا رسول الله أفلا استخرجته ؟ قال : قد عافاني الله , فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا فأمر بها فدفنت.
مبدئيا، وشخصيا لا أعلم لماذا تعتبر هذه الرواية حديثا؟؟ فهو ليس بقول النبي ولا فعله ولا تقريره، فهو رواية زعموا بأنه قول أمنا عائشة رضي الله عنها، تصف فيه حالة أصابت النبي صلى الله عليه وسلم.
وللتذكير فقط، فما نحن بصدد دراسته لا يعد قولا للنبي ﷺ، بل هو حكاية عما وقع أو ما زعموا أنه وقع للنبي ﷺ، وسيأتي ذكر ذلك في حلقة مصطلح الحديث، وسنشرح أن أهل الحديث أقحموا فيه كل ما يدور في فلك النبي ﷺ وليس فقط أقواله وأفعاله !!!
وكان من الأسلم على أحسن تقدير أن يتم اعتبار حديث سحر النبي ﷺ من السيرة والتي يعلم الكثير أنها احتوت على كثير من الافتراءات !!!
ورغم ذلك، فلنفترض بأنه حديث ويجري عليه ما يجري على الأحاديث الأخرى، وتعالوا نبدأ بتدارس متنه.
ولمن لا يعرف معنى متن الحديث، فالمتن هو لفظ الحديث، أي صلبه ومحتواه.
ويقابله السند، أي ما يرتبط بالرواية..... وسيتم تفسير وتوضيح كل ذلك في حلقة مصطلح الحديث.
باختصار، متن هذا الحديث مناقض لصحيح المنقول، منقوض بالمنطق والمعقول.
فالقرآن وبعد أن وصف المشركين الذين وصفوا النبي ﷺ بأنه مسحور، اعتبرهم ظالمين في آيتين اثنتين، قوله تعالى في الآية 47 من سورة الإسراء :
فبنص القرآن، يُعتبر كل من يصف النبي ﷺ بالمسحور بأنه ظالم، فكيف يقبل أنصار الحديث أو أكثرهم على أنفسهم الظلم بتصديق رواية تتكلم عن تعرض النبي ﷺ للسحر وبكل تلك السذاجة ؟؟؟
هذا الحديث المزعوم لا يحتاج إلى ذكاء خارق لكي يُدرك المتلقي أنه من الإسرائيليات، فالساحر في الرواية هو يهودي اسمه لبيد بن الأعصم، فمن البديهي أن يفهم اللبيب أنه حديث موضوع كان الهدف منه :
أولا : إبراز سلطة اليهود ونفوذهم بأن سحرهم طال النبي المعصوم.
ثانيا :تشكيك الناس في دينهم، وفي قرآنهم، فكيف يُقبل دين من رجل مسحور (حاش لله)؟
كما أن قول رواية في صحيح البخاري: ( حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلاَ يَأْتِيهِنَّ )، وفي رواية عنده أيضا: ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي )، وفي ثالثة خرجها البخاري: ( حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ صَنَعَ الشَّيْءَ وَمَا صَنَعَهُ ).
يجعل النبي ﷺ (حاش لله) شبه فاقد للوعي والإدراك طيلة مدة السحر التي قيل أنها وصلت لستة أشهر !!
وبالتالي يصبح الوحي المنزل عليه ﷺ معرضا للإهمال، وهو ما يجعل الطاعنين في الوحي على حق، ولو كان ذلك قد تم بالفعل لسقط الوحي وانتهت الرسالة !!!! وطبعا هذا مالم يقع، وبالتالي يستحيل أن تصدق الرواية منطقيا وعقليا.
ثم قوله تعالى في الآية 67 من سورة المائدة :
لا يدع مجالا للشك في أن النبي الخاتم كان طيلة حياته معصوما من الناس، فلا يستطيع أيا كان أن يؤثر على عقل وسلوك النبي وإلا لضاعت الرسالة، ثم حتى الشيطان بقدرته ليس له سلطان على الناس فكيف تكون لإنسان على نبي؟؟
- من جهة أخرى، فالحديث المزعوم يتكلم عن حالة النبي بأنه كان طول مدة سحره فاقد للوعي يعتقد أنه فعل الشيء وهو لم يفعله !!!!
وهذا اتهام صريح ببطلان أقوال وأفعال النبي خلال تلك الفترة على الأقل، والتي لا نعرف لحد الآن كم كانت مدتها !!
- ويأتي الاستنتاج الخطير إن نحن صدقنا هذه الخرافة، وهو أن الوحي الذي أتى النبي ﷺ خلال مدة سحره كان خيالا وغير حقيقي !!! وهنا يكمن قصد واضع الحديث، والذي أشرنا إليه أعلاه، في أن يكون بعض الوحي مشكوك فيه.
كيف أمكن لهذه الأمور أن تمر على عقول السلف وكيف تم تصديق هذه الرواية؟
هذا دون أن نخوض في تحليل الموضوع أكثر من اللازم، ونبحث في إمكانية المدعو لبيد بن الأعصم على خداع النبي وأهل بيته، وتمكنه من فعل فعلته، فهناك من قال إنه كان خادمه، وهناك من أنكر، ولا نعلم ما كان مصيره بعد ذلك، وهناك من قال إنه استمر خادما للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم لماذا لم يسحر أزواجه وأولاده وكل من في بيته؟ وبالتالي يخرب بيته كله، وتخرب الرسالة برمتها ؟؟؟؟؟ ولماذا لم نسمع عن سحر أحد أصحابه ؟؟ هل هم أقوى عقيدة منه صلى الله عليه وسلم ؟؟ بل الأغرب، أنه هناك من قال أن النبي بعد أن أُبطل سحره لم يعاقب لبيد بن الأعصم ولم يمنعه من الدخول إليه !!!! أليس هذا عين الحمق والهبل؟؟؟ و..و..و..و.......
هذه كلها أسئلة ليست لها أجوبة ؟
يكفينا التشكيك في محتوى الرواية ومدى تقبلها عقليا ومنطقيا، إذ لو بحثنا في كل حديث من الزاوية التاريخية لما كفانا الدهر كله لذلك !!!
ثم السؤال المهم والذي لم تقنعني إجابة المصدقين للرواية المزعومة، ولا يمكن أن تقنع حتى الطفل الصغير، هو :
ما الحكمة من هذه الواقعة إن افترضنا صحتها؟
كيف لأتقى الناس وأكثرهم عبادة أن يُصاب بالسحر ؟؟؟
هل السحر هو مرض لكي يصاب به كل الناس ؟
هل الحكمة هي قراءة المعوذتين كما يزعم بعض أو أكثر المناصرين لهذه القصة ؟
أم الحكمة أن نذكر الله فلا يصيبنا سحر؟؟
إن كان كذلك، فهل النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يذكر الله عز وجل ؟؟ !!!
وهل كان لابد من سحره لكي نقول له وللناس، اقرؤوا المعوذتين !!! لأنه قيل إن المعوذتين نزلتا بعد واقعة السحر!!!
ثم اعتبارا لهذا الكلام، فهل من لم يقرأ المعوذتين سيُسحر قطعا؟ وهل سُحر أغلب الناس خصوصا غير المسلمين ؟ هل هذا ما حصل فعلا وما يحصل الآن ؟؟؟
إذا كان السحر من الشيطان، والشيطان لم يكن يستطيع الاقتراب من عمر بن الخطاب، كما روي عنه ﷺ، ولكن أمكنه سحر الرسول ﷺ؟
أي تخريف وأي عشوائية في التفكير هذه ؟؟؟
أي منطق يفرض علينا الافتراء على النبي الأعظم بكل هذه المزاعم، ووضع الرسالة في هذا الحرج لكي نستخلص ما يمكن أن نستخلص من أن النبي بشر يمكن أن يُسحر، ولكي نقنع الناس بفائدة الرقية والتعوذ من السحر وخطره ؟؟
هذا دون أن أتكلم عن حقيقة السحر ومدى تأثيره الميتافيزيقي على الناس فذاك موضوع منفرد لا مجال للتفصيل فيه هنا، وسوف أتناوله بشكل معمق وأطرحه قريبا إن شاء الله.
رغم كل ما قلنا، ستجد من يقاوم العقل والمنطق وكلام الله من قبلهما، ويحاول تبرير كل التناقضات التي أبرزناها في مقالنا، وسيستمر أولئك في الدفاع عن صحة الرواية، كل ذلك خوفا عن مشاعر أهل الحديث على حساب مشاعر المسلمين، وضربا بعرض الحائط ما يشكل أولوية الأولويات وهو الدفاع عن كرامة ونزاهة وعصمة نبينا الأكرم ﷺ.
لقد أخطأ المحدثون، وأخطأ من صدقهم، وزاغ عن الحق من سمع هذا الكلام ومازال يصدق هذا الحديث لمزعوم، وأقول لهؤلاء ما قال الله تعالى في كتابه، " أليس منكم رجل رشيد "؟..
خلاصة القول في هذا الحديث المزعوم وأقل ما يمكن أن يوصف به أنه أسطورة وخرافة، لا أرى فيها إلا معولا للتشكيك في الوحي، وأداة لإبطال عصمة النبي، وشكلا من أشكال الإساءة إلى النبي ﷺ.
كل هذا عندهم أهون من تكذيب حديث في كتاب إنساني.
لقد تعمدت الإطناب في إبطال هذا الحديث أولا لأنه أولى بالتكذيب من باقي الأحاديث وأيضا لكي أبين للمتلقي أكثر الطريقة الأمثل في استعمال قرينة الاستدلال بالقرآن لتفنيد كل ما نسمعه ونقرأه من روايات لا تتوافق مع ما جاء في كتاب الله.
يجب أن يعلم المتعصبون لكتاب البخاري وكتب الحديث بصفة عامة، أن عهد التبريرات يجب أن يولي، وأن البحث عن مخارج لفرض روايات تخالف المسلمات المنطقية والعقلية للفكر الإنساني في عصور العلوم المبنية على التجربة والبرهان الرياضي، لن يجدي شيئا ولن يخفي الحقيقة، وقد حان الوقت لاسترجاع حاكمية القرآن الكريم.
وليس هناك أي داعي لتقديس كتاب أو كتب قائمة على تجربة بشرية لها احترامها، ولكن لا يجب أن تتعدى دورها كداعم للمفاهيم القرآنية وألا تناقضها أو تناقض المنطق والعلم.
وسنتطرق إن شاء الله، لاحقا لروايات أخرى باطلة ومتعارضة مع القرآن الكريم ومع المنطق والعقل والهدي الرباني.
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
[ 1 ] تعليقات :
2021-03-28 14:07:30عبد الكريم من Moroccosamben82@gmail.com
ما شاء الله شخص محترم وفقك الله في سعيك
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))