أحاديث باطلة (2)
منشور في : 2017-07-10
حديث الردة :
مثال آخر يعتبر من آفات الفقه الموروث، وهو حديث الردة "من بدل دينه فاقتلوه" الذي وللأسف لم تطبق فيه قاعدة التوافق مع القرآن الكريم، لأنه وبكل بساطة يعارض بوضوح آيات الحرية الدينية التي كفلها الإسلام وشدد عليها في آيات عديدة :
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
الآية 256 من سورة البقرة.
فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا
الآية 29 من سورة الكهف.
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
الآية 99 من سورة يونس.
فالردة لم تكن أبدا مسألة تخص المجتمع بل هي مسألة شخصية لا يتعدى تأثيرها الإنسان نفسه، ولا يمكن أن يتأثر بها محيطه لأن الإيمان اعتقاد قلبي.
فمن غير المعقول أن يطبق حد الردة وهو القتل في حق إنسان كفل الله له حرية الاعتقاد، بل هو من صميم روح الإسلام.
وأما ما اخترعه فقهاء الجمود والتقليد من أن المرتد يستتاب فإذا لم يتب يُقتل، فهذا قمة التطاول على سنة الله التي لا يمكن لأحد أن يتدخل فيه، وهو تقول على رسولنا الكريم بأنه أمر بقتل المرتد، أولا لأنه لا يمكن أن يعارض كلام الله، وثانيا لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام الحد المزعوم على أي كان في حياته !!! فأي تزوير للتاريخ بوضع حديث الردة وكيف مُرر على عقول السلف ؟؟
بل بالعكس فقد كان من بنود معاهدة صلح الحديبية أن من أسلم ثم ارتد إلى قريش لا يطالب به المسلمون، وأن من التحق بالمسلمين من المشركين استردوه، وهذا ببين أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر بعدم وجود شيء اسمه حد الردة فالحدود لا تسقط لأي ظرف كان.
وقد روي كذلك عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يلحق الأذى بالأعرابي الذي أسلم ثم طلب إقالته من شهادته، وإنما قال : “المدينة كالكير تنفي خبثها وينصعُ طيبها”.
ثم الآية الكريمة :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً
الآية 137 من سورة النساء.
أكبر دليل على أنه ليس هناك لا حد ولا استتابة ولا أي شيء من هذا القبيل.
فالآية تبين بشكل واضح أن الله تعالى يترك لعباده فرصة أولى وثانية وثالثة حتى يصر المرتد على كفره، فيكون جزاؤه أن الله لا يغفر له ولا يهديه سبيلا.
فهو جزاء أخروي، وأما الدنيوي ففقط تهديد بعدم الهداية لكي يتجنب المؤمن الوقوع المتكرر في الكفر.
فكيف يأتي بعد ذلك من يأمر بقتله والله كفل له حرية البقاء كافرا إلى يوم الحساب !!!!
الإيمان لا يأتي بالإكراه، بل باقتناع عقلي وقلبي يملأ جوارح الإنسان فيطمئن بإيمانه عن طيب خاطر، أما التهديد بالقتل لردع المسلم عن الارتداد عن الدين فهو ليس من الإسلام بشيء ولا علاقة له البتة بروحه وجوهره ولا يطابق سنة الله ورسوله.
وكل ما قيل من طرف بعض الفقهاء حول تبرير تناقض الحديث مع الحرية الدينية المكفولة بالقرآن، هي تبريرات واهية بل ومضحكة ولا تقنع ذوي الألباب. وأتذكر رأي الشيخ الشعراوي حول حد الردة وهو موقف طريف فكان تبريره للمسألة ان الإسلام يعطي فرصة للإنسان أن يأخذ وقته قبل أن يعتنقه ولا يدخل الإسلام إلا إذا كان متيقنا أنه لن يخرج منه، وهذا في حد ذاته إكراه، ونحن نعلم انه لا إكراه في الدين، فهذا الكلام غير مقبول وفارغ منطقيا، وهناك من أتى بالمثال العامي "دخول الحمام ليس كالخروج منه" وهو استدلال دون المستوى ولا يستحق المناقشة.
الأدهى من ذلك كله أن هناك حديث في الصحاح يتناقض بوضوح مع حديث الردة، وهو :
" أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أقلني بيعتي فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها."
إن صحت الرواية وأعتقدها كذلك، ولو كان حد الردة موجودا لطبقه النبي (ص) على الأعرابي !! ولكنه اكتفى بإفحامه بكلمات رادعة وزاجرة تكفيه لكي يعي قيمة ما فعله، فالإسلام يشرف من يعتنقه وليس العكس.
وحتى المتنورين من الفقهاء وهم قليل، والذين رفضوا حد الردة بمفهومها التقليدي واشترطوا أن تكون ردة بمفهوم الحرابة، أي أن يكون المرتد يدعو إلى الإلحاد أو إلى الفتنة أو يحارب الإسلام وليس فقط ردة اعتقادية فكرية، ومن السلف أذكر الفيلسوف "ابن رشد"، ومن الخلف اذكر "محمد عمارة"، ونلاحظ أنهم يتجنبون رفض الحديث الذي يشرع حد الردة ويكتفون بتفسير آخر، وهذا في حد ذاته هروب من الحقيقة، وهي أن الحديث موضوع وواضعوه هم من أرادوا التخلص من معارضيهم فالمسألة أولا وأخيرا سياسية.
وندرج هنا دليلا على قولنا باستعراض نماذج من علماء المسلمين وفقهائهم ممن حكم عليهم بالقتل أو قتلوا بدعوى الردة، وهم من أعلام المسلمين الذين يستشهد بهم، فمنهم: أحمد بن نصر الخزاعي (ت231 هـ) وقد أعدم بحد الردة من قبل الواثق بالله وذلك في إطار الفتنة بمسألة خلق القرآن، وممن حكموا بالردة أبو حيان التوحيدي، والكيا الهراسي الفقيه الشافعي والمفسر، وابن زرقون المالكي، والآمدي الأصولي والمتكلم، ولسان الدين الخطيب، والحافظ المزي، وغيرهم كثير.
باختصار، يكفي ما قلنا لتكذيب ما جاء في رواية حديث الردة، وللقول ببطلانه لأنه يناقض كلام الله وروح الإسلام ومنهج نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام.
ولا ننسى بالمناسبة أن ندحض اعتقادا تاريخيا يستدل به الفقه الموروث، وهو حول ما سُمي خطأ بحروب الردة والتي وقعت في عهد أبي بكر الصديق، والتي خلافا لما تعتقد الأمة بأنها كانت بسبب ارتداد بعض القبائل عن الإسلام، فهو كان ردة سياسية وانقلابا ضد خلافة أبي بكر، والتي تمثلت في الامتناع عن أداء الزكاة التي كانت من أهم مصادر تمويل بيت مال المسلمين آنذاك.
فالصدمة التي أصابت المسلمين آنذاك بموت رسولنا صلى الله عليه وسلم، كانت السبب في هذه الردة السياسية لا أقل ولا أكثر، فالمسألة لم تكن لها علاقة بردة دينية، لأن هذه الأخيرة مرتبطة باعتقاد قلبي لا يؤثر في الدولة الإسلامية ولا حتى في محيط المرتد، وبالتالي لا يمكن ان تكون سببا في شن خليفة رسول الله آنذاك لتلك الحروب الدموية، وأكبر دليل على كلامي هذا، هو التفاف تلك القبائل حول مدعيي النبوة بدافع العصبية القبلية، فلم يكن إذن أي شرك أو كفر يستدعي وصف الحالة بالردة بمفهومها العقائدي.
وانظروا كيف تنبأ سبحانه وتعالى وكيف وصف تلك الحالة بأنها انقلاب على الأعقاب في قوله عز جل:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ
الآية 144 من سورة آل عمران.
الأمر واضح : من انقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا... انتهى....
ولكن بقي أن نشير إلى شيء بهذا الصدد هو أنه تاريخيا من الممكن أنه وقع خلط بين الردة الفكرية والردة السياسية أو ما يعرف اليوم بالخيانة العظمى، هنا وجب التنبيه إلى
أنه لا بأس في أن تتخذ الدولة في حق الخائن للوطن إجراء قاسيا وتطبق حد الإعدام وهذا ما يُعرف في الدين بمفارق الجماعة، والفتنة أكبر من القتل كما جاء في كتاب الله، وهذا لا علاقة له بالردة العقائدية والفكرية وهذا ما أقره علماء كثيرون ونحن نقره بدورنا لكي نزيل الغبار على إشكال كبير في الموروث الإسلامي ونقفل ثغرة كبيرة تضع ديننا الحنيف في موقف لا يحسد عليه.
** الكاتب : وديع كيتان **