هو كلام الله الموجه إلى العالمين، صمم ونزل بلسان عربي مبين.
وكذلك هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذه قناعتنا نحن كمسلمين، ولكن ماذا بالنسبة لغير المسلمين ؟ بل ماذا بالنسبة لللادينيين ؟ للملحدين ؟ بالنسبة أيضا للنصارى واليهود الذين حُرفت كتبهم ؟
ما من شك أن إثبات قطعية النص القرآني ليس بالأمر الهين، ولا متاحا لأي كان، وأن الإتيان بالبراهين ليس بالأمر اليسير خصوصا لإقناع غير المسلمين الذين لا يعنيهم لا تراثنا ولا ما ترك آباؤنا وأجدادنا.
وحتى السواد الأعظم من المسلمين لا يدري ما الدليل على أنه من عند الله، وأما فقهاؤنا الكرام فمكتفون بحجة تواتر القرآن التي يرونها دليلا على قطعية ثبوته، وطبعا هذا اعتقاد ليس علميا البتة ولا يشفي الغليل ويكفي أنه لا يقنع غير المسلمين.
لتقريب المفهوم أكثر لدى القارئ، فالتواتر هو نقل جماعة من الناس عن جماعة أخرى يستحيل تواطؤهم على الكذب.
فإذا كان القرآن قد وصلنا عن طريق مجموعة من الرجال الصادقين بطريقة متواترة منذ زمن الرسول (ص) إلى الآن، فتلك فقط طريقة سخرها الله لحفظ القرآن من الضياع والنسيان ليس إلا، بل وتبقى غير كافية لأن الرسول (ص) كان قد أمر في عهده بتدوين القرآن الكريم، دون أن ننسى أن الله تعهد بحفظه لما قال في كتابه العزيز :
فحفظ القرآن في الصدور، وتناقله بالتواتر هو فقط أداة مساعدة لحفظ الذكر، ولا علاقة له بصحة محتوى الكتاب من عدمه.
فالتواتر هو مجرد أداة للمعرفة الإنسانية، ولا يعتبر برهانا على حقيقة الأشياء أو صحتها، فهو ليس حجة لأنه لا يستند إلى منهج علمي وعقلاني، ومن الخطر الاعتماد عليه كدليل لا بشكل رئيسي ولا بشكل ثانوي، لأن تلك الحجة ستسقط فور تفنيد حجية التواتر كدليل معرفي.
وهذا ما ثبت لدينا بعد تحليل التواتر بشكل علمي وسنورده في مقال منفصل إن شاء الله، والذي وصلنا من خلاله أن التواتر يمكن أن يكون حجة على وقوع الأحداث وكذا طريقة صدور الأفعال، وليس دليلا لإثبات صحة الأقوال.
وكمثال الصلاة بشكلها الحالي، فهي متواترة منذ أن امر النبي (ص) بقوله : "صلوا كما رأيتموني أصلي". فقد أداها الرسول (ص) لسنوات ولآلاف المرات أمام الملأ في المسجد، وتكرر ذلك وتناقله الناس بشكل جماعي وبنفس الطريقة عبر أزمان مختلفة وبأماكن متعددة.
فالتواتر إذن بالنسبة للقرآن بنفس المنطق هو دليل على وجوده وتناقله منذ بدء الرسالة إلى اليوم، ولا يشكل دليلا على صحة مصدره أهو من عند الله أم من تأليف النبي (ص) حاشا لله؟
ولكننا لا ننكر قوة تواتر القرآن نسبة إلى غيره من النصوص التاريخية، فلم يشهد أي كتاب عبر التاريخ أي تلاحم للأجيال في الحفاظ على هذا الكتاب من التحريف والتزوير أو الضياع، وهذا بفضل تعهد الله بحفظه وتسخيره الأسباب لذلك.
ولذلك فإننا نعتبر التواتر من بين الأدوات التي سخرها الله لحفظ القرآن لا أقل ولا أكثر، ولا يحتج به لتأكيد قطعية محتوى التنزيل الحكيم.
كان لزوما علينا أن نستهل بحثنا بتفنيد حجة التواتر لكي نقطع الطريق أمام من يقارن بشكل مستفز بين الذكر الحكيم وبين الأحاديث النبوية مستعملا هذه الأداة بقولهم: إن من نقل إلينا هذه الروايات هم أنفسهم من نقل إلينا القرآن الكريم، فوجب بالتالي التعامل معهما بنفس الطريقة !!
ومع أننا لا نلزم أحدا بنتيجة ما وصلنا إليه بخصوص التواتر، يبقى محل اختلاف في أحسن الأحوال، فمن الواجب إذن بالنسبة لهذه القضية أن نبحث عن دلائل أقوى وأنجع لإثبات قطعية النص القرآني ومصدره الرباني.
إذا فلنعد إلى لب الموضوع ونقول:
آيات القرآن جعلها الله بينات نزلها للتدبر :
وأول مراتب تدبر القرآن هو استشعار مصدريته الربانية والتحقق منها تدريجيا وعلى مكث.
ما يعنينا في هذه الآية هو تعبير: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا
وهنا نجد أول مفتاح لمعرفة أن القرآن من عند الله، ألا وهو عدم وجود اختلاف أو تناقض يذكر في كلام الله، وأن كتاب الله يشكل منظومة متناسقة لا يعتريها خلل ولا نقصان.
وأما وسائل الاستشعار التي أشرنا إليها من قبل، فتبدأ من لحظة سماع تلاوة القرآن، مرورا بقراءته بدرجات ومستويات سطحية ثم نتعمق شيئا فشيئا عبر سبر أغوار مناجمه التاريخية والأدبية والفلسفية ثم العلمية لتكتمل بذلك حلقات المنظومة القرآنية التي لا تترك مجالا للشك في أن القرآن هو كلام الله الذي أوحاه إلى رسوله لتبليغه إلى الناس كافة.
قبل أن نغوص لاستكشاف هذه الوسائل، تعالوا نتساءل :
لماذا مطلوب منا إثبات مصدرية القرآن الربانية ؟
أولا : بالنسبة لغير المسلمين، اعتناق الإسلام في حالة ثبوت ذلك، فإذا أثبتنا أن القرآن كلام الخالق، كان الإيمان به ضرورة لا مفر منها.
ثانيا : بالنسبة لنا المسلمين، الاطمئنان على مرجعيتنا الرئيسية في الدين، وإبعاد كل شك أو ريب بالقرآن وبالتالي بالإسلام ككل.
ثالثا : لرد شبهة حجة تواتر القرآن بقطعية النص القرآني، والتي تجعل القرآن مجرد مخطوط تاريخي، وبالتالي يصبح في نفس الدرجة مع الكتب السماوية الأخرى، فتزول منه تلك الميزة الكبيرة التي تجعله فريدا من نوعه.
إن أدوات الإثبات والتحقق، والتي تمكننا من التعرف بشكل يقيني على مصدر كلام الله في القرآن، تتجلى في خمسة أقسام كبرى، كل واحد منها حجة بذاته، وكل قسم هو خاص بزمن معين أو أزمنة متعددة، ويشكل إعجازا لقوم بعينهم أو لأقوام مختلفة.
ونستعرض هاته الأقسام بشكل نتلمس فيه البنية الهندسية الفريدة من نوعها للقرآن والتي تجعله المعجزة الكبرى في تاريخ البشرية جمعاء.
1. إعجاز التحدي :
أعلى مستويات التحقق من قطعية النص القرآني والذي يبرهن بشكل قوي على مصدريته الإلهية، هو مستوى التحدي الموجه إلى كل الخلق من طرف خالقهم بإتيان مثيل لهذا القرآن أو بالأحرى لسورة واحدة.
و حاجز التحدي مازال قائما منذ رفعه قبل 14 قرنا ولحد الآن، ولم يستطع أي من المكذبين بكتاب الله من أن يكسره، وطبعا لا توضع في الحسبان أو تدخل في المقارنة تلك النصوص الركيكة التي خطها بعض السفهاء واستنسخوها من آيات الكتاب بطريقة ممسوخة متلاعبين بالمفردات وبتركيباتها وطريقة نظمها وأشهر عمل من هذا القبيل هو كتاب أسموه "الفرقان الحق" والذي حاول واضعوه أن يجعلوه بمستوى القرآن الكريم وفشلوا فشلا ذريعا.
ولا ننسى هنا بأن التحدي المرفوع هو ليس تحديا في صنع نص أدبي يشبه النص القرآني فحسب، فقد كان الجيل الأول الذي نزل في عهده القرآن أكثر بلاغة وفصاحة من الأجيال الحالية، ولم يحاولوا تقليد القرآن لأنهم فهموا أن سحر القرآن وعظمته ليس في صياغته الأدبية واللغوية فحسب بل في أشياء أخرى كثيرة كامنة ومخفية في قلب النص، ولا تتجلى إلا للعالِمين المتدبرين الأكفاء الذين بإمكانهم استنباط عجائب القرآن التي لا تنقضي وخزائنه التي لا تنفذ.
بل وقد حاول بعضهم آنذاك من الذين ادعوا النبوة وأشهرهم مسيلمة الكذاب من فعل نفس الشيء، وكان يتلو على أتباعه بعض مخترعاته الأدبية التي لم يفلح فيها من خداع إلا شرذمة من سفهاء القوم.
2. الإعجاز السماعي :
هذا النوع من الإعجاز يلمسه بشكل خاص ورئيسي العرب أو أصحاب اللسان العربي.
وهذا لا يعني أن الأعجميين لا ينطبق عليهم هذا الإعجاز، لأنه قد ثبت دخول الناس للإسلام بمجرد سماع آيات القرآن منذ بدء الرسالة إلى عصرنا الحاضر، ومن كل الأجناس والقبائل والأقوام.
يحس سامع القرآن بإحساس غريب حين تتلى آياته على مسامعه، حتى وإن كان جاهلا للغة العربية.
وهذا الإحساس يختلف من إنسان لآخر، وذلك بحسب مستواه المعرفي.
وبالنسبة للعربي وخصوصا المتمكن من اللسان العربي، فالإضافة هي أنه عند سماعه للقرآن، يحس بأنه ليس كلام بشر، وأن النص القرآني هو نص غير عادي.
وهذا ما عبر به قوم الرسول (ص) حين بُهروا بالقرآن الذي سمعوه وهم أصحاب السليقة العربية، ولم يستطيعوا تصنيف كلام الوحي في أي مقام، حتى قال فيه الوليد بن المغيرة فيما جاء رواية عنه:
" ان به لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمغدق وانه ليعلو ولا يعلى عليه"
وهذا الاندهاش من طرف جهابذة اللغة العربية هو تأكيد غير مباشر على نفي البشرية عن النص القرآني الذي صيغت كلماته وتعابيره وطريقة نظمها الفريدة من نوعها بشكل جعلت منه كلاما لا يستطيع احتواءه أي نص إنساني، فلا هو بشعر ولا هو بنثر.
وهكذا وصفه المشركون في حقبة نزول القرآن، ولم ينكر تأثير القرآن حتى أشد أعداء الإسلام واعتبروا القرآن سحرا والرسول (ص) ساحرا مجنونا (بئس ما يصفون).
ولا ننس أن التاريخ أكد لنا أن أولئك المشركين كانوا يخشون سماع القرآن لأنهم أدركوا ساعتها أن فيه تأثيرا خاصا على سامعيه حتى ولو كان جمادا.
وفي الأخير وجب أن نذكر وننبه أن هذا النوع من الإعجاز لا يمكن أن يستشعره أولئك الذين بداخلهم رفض مسبق ومن لديهم مقاومة ذاتية لهذا الكتاب المنير، ووقعه على القلب لا ينكره إلا عديم الإحساس، كيف لا والقرآن هو الوحيد الذي يخشع له الجبل الشامخ، كما قال عز وجل :
نقصد بالجانب المنطقي في الإعجاز، الاستخدام الحكيم لأسس المنطق العقلي من أجل استنتاج عدم بشرية الوحي واستحالة صدور النص القرآني عن أي بشر كان، وبالتالي لا يمكن إلا أن يكون رباني المصدر.
أولا ومن بديهيات المنطق البحث عن المصلحة الشخصية (مادية أو معنوية) في أي مشروع كان، يعني أنه لو كان القرآن الكريم من تأليف النبي محمد (ص)، فمن الطبيعي والمنطقي أن يدعو كاتبه فيه إلى شيء يجلب له مكانة مرموقة كزعامة أو ملك، أو على الأقل منفعة مادية، في حين نجده يدعو إلى تعظيم الإله وتبجيل الخالق الذي يعتبر في علم الغيب بالنسبة للمتلقي !!
وقد أكد التاريخ ما نحن بصدد قوله، وروى لنا العرض الذي قدمه كفار قريش على الرسول (ص) في سبيل التخلي عن الدعوة، فكان قد بعثوا إليه عتبة بن ربيعة العبشمي (وكان من عظمائهم) من اجل ذلك، فذهب إلى رسول الله - (ص) - وهو يصلي في المسجد وقال له " يا ابن أخي إنك من خيارنا حسبا ونسبا، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم ومن مضى من آبائهم، فإن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا (أي مسًّا) من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه".
فقام النبي ورد عليه بسورة فصلت، فصعق عتبة بن ربيعة من هول ما سمع وذهب يخبر قومه بذلك.
وأعادوا الكرة مع أبي طالب عم الرسول (ص)، وقاموا بتهديده، وقالوا له : "يا أبا طالب إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا مِنْ شتم ابائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنّا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا له" ، فما كان منه إلا أن بلغ ابن أخيه بذلك، فكان رده الشهير صلى الله عليه وسلم : " يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته".
المنطق كذلك يحتم علينا أن نتساءل لماذا يدعو الرسول إلى عبادة الواحد القهار وعدم الشرك به، بكتاب يحتوي على 6236 آية ولمدة 23 سنة؟ ويدعو إلى الأخلاق والفضيلة والقيم الإنسانية ويضرب الامثال ويحكي القصص و... كل ذلك من دون ربح أو منفعة، والتاريخ يشهد أنه عاش حياة متواضعة وهو الذي قاد وحكم أول دولة إسلامية كان فيها مبدأ الشورى هو المهيمن.
ألا يدل ذلك على أنه مجرد مبلغ ورسول؟
عتاب الله لنبيه دليل منطقي آخر :
عتاب الله للنبي هو أكبر دليل على صدق النبي فيما أتى به وهو القرآن الكريم.
وهذا العتاب يضرب بعمق ادعاء اختراع النبي للقرآن وأنه كلامه.
هل رأيت زعيما يحاول التزعم على الناس ويأتي بكلام ينتقد فيه نفسه ؟؟؟؟
إذا تدبرنا المواضع التي عاتب فيها الله نبيه (ص) مثل قصته مع ابن أم مكتوم أو موقفه مع أزواجه أو قصته مع من تخلف عن الجهاد،... نجد انتقادا واضحا لتصرف النبي (ص) ولوما على بعض ما قام به، وهذا في حد ذاته دليل قوي على أن الرسول لا ينطق عن الهوى ويبلغ كلام الله حرفيا دون نقص أو زيادة.
ولنا مقال منفصل في قضية عتاب الله لنبيه (ص) منشور في موقعنا لمن لأراد مزيدا من التفصيل.
وبالتالي فالقرآن منزل من عند الله، ولو كان كلام بشر ما كان يحتوي عتابا لرسول الله (ص)، فالبشر من عاداتهم لا يتقبلون النقد ويدعون الكمال، وما من منهج بشري يلوم فيه صاحبه نفسه أو يعاتبها، بل كل منهج وضعه بشر يحاول أن يوهم نفسه والناس بأنه هو الكمال المطلق
سورة المسد :
بدون منازع تعتبر هذه السورة تحد واضح لكل مشكك في القرآن، ففيها جاء توعد الله بالعقاب الشديد لأبي لهب عم الرسول وزوجته وذلك في حياتهم وقبل مماتهم، في حين كان من الممكن أن يتراجع فيها أصحاب الشأن بالتوبة والدخول في الإسلام كما حصل مع الكثيرين من أمثالهم ولو نفاقا على الأقل.
ولكن المدهش في القضية، أنه لم يقع أي اعتراض أو أي ادعاء ماكر من طرف أبي لهب لتغيير عقيدته ولو ظاهريا لمحاولة إبطال الوحي، وحتى أشد أصحابه دهاء من كفار قريش لم يفكر مجرد التفكير في لعب هذه الورقة بأن يتوب أبو لهب أو امرأته صوريا أو أن يدخلوا في الإسلام نفاقا، وبالتالي تسقط سورة المسد بأكملها وبالتالي يسقط الوحي كله والرسالة بأكملها.
ولكن أراد الله أن يكون ما يكون لأنه قضاء الله وقدره وكلماته التي لا تبدل ولا تمحى. "وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا"
من له ذرة من المنطق لا يجب أن يغفل عن هذا الجانب من الإعجاز، الذي يوضح بجدارة أن الوحي إلهي لا يجوز نسبه لأحد من خلقه.
4. الإعجاز البلاغي :
من الطبيعي أن تكون اللغة العربية مدخلا لفهم القرآن وأداة رئيسية لمعرفته وإدراك مكنوناته.
فكونه نزل بلسان عربي مبين، وبلسان القوم المنزل إليهم، يقتضي أن تكون لغة القارئ أو السامع عاملا مهما ولا غنى عنه للتعرف على ما جاء فيه.
هذا النوع من الإعجاز موجه خصوصا لمعاصري الحقبة الإسلامية الأولى من المتقدمين كونهم كانوا جهابذة في اللغة العربية أكثر من غيرهم المتأخرين، والذين أعجزهم التركيب البلاغي والفني لألفاظ وتعابير القرآن الكريم.
أما نحن وخصوصا من لهم مستوى متوسط في اللغة العربية، ليس بإمكانهم استشعار هذا الإعجاز، لأن النص القرآني بالنسبة إليهم هو نص مكتوب باللغة العربية الكلاسيكية التي يجهلونها أصلا فالإحساس بالفرق تقريبا منعدم.
اما أولئك الذين اتصفوا بالسليقة العربية لم يتمكنوا من إخفاء إعجابهم الشديد ببلاغة وبيان القرآن الحكيم.
فقد جاء على لسان الوليد بن المغيرة الذي كان أحد أشهر كفار قريش وأشدهم عداوة للإسلام قوله : " إن عليه لحلاوةً، وإن عليه لطلاوةً، وإنه لمثمرُ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحكم ما تحته ".
وهذا ما جعلهم يعتبرون القرآن من السحر وأن الرسول ساحر أو مجنون (ساء ما يحكمون).
وهذا يؤكد ان كلام القرآن كان يسحرهم بجمال تعبيراته وبلاغته وقوته وتأثيره القوي على سامعيه، وذلك بالرغم من تفوقهم في نظم الشعر وصياغة النثر.
من جهة أخرى وجب أن ننبه إلى ما يلي :
- كلما كانت لغة القارئ ضعيفة، كان إحساسه ببلاغة القرآن أضعف بل تكاد تكون معدومة.
- وكلما تقوت اللغة العربية لدى هذا القارئ، كلما ازداد انبهاره بقوة بلاغته وسحر بيانه.
- وكلما تعمق القارئ أكثر في دراسة اللغة ومعرفة أسرارها اندهش أكثر فأكثر لفن صياغة التعابير القرآنية .
فتعابير القرآن وتركيبتها الفريدة تجعلك عاجزا حتى عن تقليدها أو اقتباس صيغتها لاستعمالها في نص عادي، وإذا حاولت ذلك، فقد هذا النص قيمته، وتحس بنوع من الركاكة التي لن تجدها في النص القرآني.
وكأبسط مثال ظاهرة التكرار في القرآن الكريم التي تزيد القرآن حلاوة في حين أنها تعيب أي نص إنساني.
والعارف باللغة العربية وأسرارها لا يسعه إلا أن يقف إجلالا لاستمرار التناسق اللفظي للقرآن وتجانس أسلوبه طول مدة نزوله التي بلغت 23 عاما، فلا يمكن لأي كاتب أن يحافظ على أسلوبه في التأليف والكتابة طول هذه المدة الزمنية دون أن يلاحظ القارئ المتبصر تغيرا في طريقة التعبير أو في أسلوب الصياغة، فتأثر الكاتب بمحيطه أمر لا مناص منه ويزداد مع تقدم الزمن، وهذه الأشياء يعرفها النقاد الأدبيون أكثر من غيرهم.
شيء آخر، يؤكد بشكل قطعي مصدرية القرآن الربانية، هو أن المؤثرات البيانية الموجودة في النص القرآني أو ما تعرف بالخصائص الفنية في النصوص الأدبية الإنسانية، لا يمكن أن تستنسخ أو تستعمل بنفس الشكل في هذه الأخيرة.
وقد أشرنا إلى التكرار كظاهرة نصية تعيب النص الإنساني ولا تعيب النص القرآني.
في الأخير وجب أن نذكر أنه مادامت اللغة وبشكل عام هي الآن في تقهقر مستمر ولا تظل حالها كما كانت وبتلك القوة والبلاغة، فهذا النوع من الإعجاز يقل استشعاره لدى المتأخرين من هذا العصر وإدراكه غير متاح لعامة الناس.
ولا ننسى كذلك أن نشير إلى عدم إمكانية مزج النص القرآني بالنص الإنساني دون أن نميز الكلام الدخيل، وهذا وجه إعجازي آخر لا يمكن أن يتميز به أي نص آخر.
5. الإعجاز العلمي أو المعرفي :
أكثر الناس إنكارا لوجود إعجاز علمي في القرآن لا يمكن أن ينكر على الأقل وجود إشارات لمسائل علمية فيه.
فمن وصف لمراحل تطور الجنين إلى وصف دقيق لظواهر علمية فلكية، إلى دليل دوران الأرض وكرويتها، دون ان ننسى الحقائق الطبية و.. والكثير الكثير.. وما خفي كان أعظم.
فإذا لم يكن كل الناس علماء ليدركوا حقائق النظريات العلمية التي أشار إليها القرآن بطريقة أو بأخرى، فالعلماء منهم بإمكانهم ذلك وفق رصيدهم المعرفي والعلمي كل في مجال اختصاصه.
وبواسطة هذا الرصيد يستطيع هؤلاء استخراج الدرر القرآنية الموافقة للحقائق العلمية الثابتة، وأسطر على كلمة "الثابثة" أي التي تم البرهنة عليها وأصبحت مسلمات لا جدال فيها.
وغيرهم من العقلاء، من الممكن أن يلتمسوا مدى تطابق الآيات العلمية مع ما وصل إليه العلم، ويصبح مفروضا على المسلمين أن يستشعروا ذلك لأن تدبر آيات خلق الله أمر إلهي.
قال تعالى :
وإذا كان استشعار الإعجاز البلاغي يقل مع تقدم الزمن فالعكس بالنسبة للإعجاز العلمي الذي تزداد أهميته وتكثر الأدوات التي تمكن من التدقيق في المسائل العلمية بفعل ازدياد الرصيد المعرفي للإنسانية.
وكلما تقدم العلم أصبح في متناول الناس أو بعضهم تحقيق المقاربة العلمية مع آيات القرآن أو بعضها.
فما لا يدرك كله لا يترك جله
وإذا لم نتمكن من إثبات التطابق الفريد لبعض ما أتى به القرآن مع العلم الحديث، فعلى الأقل لا يمكن أن ننكر ولحد الساعة عدم وجود أي تناقض يذكر بينهما.
من جهة أخرى لا يجب إنكار أو تجاهل إسلام العديد من الناس وخصوصا العلماء منهم بفضل هذا النوع من الإعجاز وما زلنا نسمع المزيد، كل ذلك اعتمادا على ما جاء به القرآن من آيات كونية بتفاصيل لا يستطيع انسان ولو كان رسولا أن يحيط بها وقت نزول القرآن الكريم.
وليس هذا فقط بل لقد بلغت الإشارات العلمية في بعض الأحيان إلى تفاصيل دقيقة يستحيل أن يكون مصدرها بشريا ومنذ 14 قرنا.
وهنا المجال لا يتسع لاستعراض الأمثلة وهي غزيرة وقد استفاض فيها الكثيرون سواء في الكتب أو على المنابر الالكترونية العديدة.
وأخيرا وليس آخرا، ومهما فصلنا وبيننا بخصوص قطعية النص القرآني وصحته وأنه من مصدر رباني، يبقى الإيمان بذلك، وخصوصا بالنسبة لمن لا تكفهم كل هذه الأدلة والبراهين التي ذكرناها، مسألة اختيار واحساس ويقين قلبي وعقلي يتفاوت فيه الناس بمقدار تفاوت عقولهم ومدى استعدادهم لإدراك ذلك.