الاستدلال في الفكر الديني
منشور في : 2012-06-29
هذا الموضوع هو تطرق لقضية الاستدلال والبرهنة وعلاقتهما بالفكر الديني.
وهو يأتي بناء على الإشكالية التي يمكن أن تطرح لدى بعض المسلمين العقلانيين في طريقة الاستخدام القسري للبرهنة والاستدلال بشكلها العلمي البحت، غير آبهين بأن المسألة ليست بهذه البساطة، وأن الاستخدام المفرط للعقل المجرد من الهدي الرباني والمهمل لأمور أخرى متعلقة بجوانب متعددة، لا يؤدي إلا إلى زيغ عن الدين وعن الحق، مثله مثل الإهمال المطلق للعقل.
ولنا في التاريخ العبرة ممن سبقونا وسقطوا في هذا الفخ وعلى رأسهم المعتزلة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو :
هل من اللازم أن ننهك عقلنا في الاستدلال على أي شيء يخطر على بالنا وخصوصا فيما يخص الدين ؟
طبعا هذا الإشكال عولج من قبل وهو ما عرف بقضية النقل والعقل.
وتفرق على إثره فرق، فهناك من انحاز إلى النقل، غير معترف بعقله، وهناك من اعترض وانحاز إلى العقل وحمله أكثر من طاقته.
وكلا الطرفين كان متطرفا في رأيه، في حين أن المسألة تحل ببساطة بالتوفيق بين النقل والعقل، طبعا مع هيمنة العقل.
ونحن هنا لن نعيد النقاش من هذا الباب.
ولكننا سنحاول أن نثبت بطريقة عملية أن الدين لا يخضع في مجمله للبرهنة والاستدلال.
مبدئيا يجب أن نقر بأنه ليس كل ما هو عقلي هو بالضرورة خاضع للبرهنة والعكس صحيح.
وهذا المبدأ ضروري لكل من يتخيل أنه بدون برهنة واستدلال ليس هناك استخدام للعقل.
فكما يعلم كل من له إلمام بالعلوم البحتة من رياضيات وفيزياء وكل ما تولد عنها ، أنه ليس كل ما نؤمن به ونعمل به في الميادين المرتبطة بهاته العلوم هو مبرهن عليه، وأن كثيرا من المفاهيم، نؤمن بها فرضا في انتظار أن نبرهن عليها أو يأتي أحد ويدحض المفهوم بدليل قوي، ولكن القافلة لا تتوقف.
وإذا سلمنا بهذه المسألة وجب التسليم بها فيما يتعلق بالقضايا الدينية، لأنها مرتبطة وخصوصا الجانب الاعتقادي منها بالإيمان الروحاني أكثر منه بالإيمان العلمي العقلي.
فكثير من القضايا الدينية هي تدخل في مجال العلوم الإنسانية، مثلها مثل علم النفس وعلم الاجتماع، وغيرها، وفي بعض الأحيان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نبرهن على مفاهيم أو أشياء سوى التصديق بها والعمل بها لأنه ليس لنا خيار آخر، مادامت لا تعارض المنهج القرآني ولاتعارض العقل والمنطق.
ولتقريب القارئ من المسألة أكثر يمكن قول الآتي:
في الدين يجب التفريق بين الاعتقادي وبين العملي.
الدين فيه ما هو يقيني وفيه ما هو ظني...المسائل الاعتقادية تحتاج إلى يقين...و المسائل التي لا تحتاج إلى يقين من الممكن أن نعمل بها مادام يتوفر هناك ولو ظن بصحتها.
فإذا أخذنا على سبيل المثال، القوانين الوضعية، فهل نحن برهننا عليها قبل أن نطبقها أو أننا نطبقها فقط لأجل تنظيم حياتنا في المجتمع الذي نعيش فيه ؟؟؟
إذا أخذنا مثلا قانونا من قوانين السير يخص الإشارات الضوئية، فهل توقف السيارات عند اشتعال الضوء الأحمر يحتاج لبرهنة أو استدلال لمعرفة علاقة الأحمر بالوقوف ؟؟ أم أن الأمر مجرد اصطلاح وأن المسألة هي مسألة تنظيمية بالأساس ؟؟؟
هل يحق لأحد أن يأتي الآن ويطالب بتغيير القانون ويطالب بتغيير اللون الأحمر إلى أزرق والأخضر إلى بنفسجي !!!! بحجة أنه لا يقتنع بالألوان السابقة، وأنه ليس هناك دليل على اصطلاحها ؟؟؟
ولكن متى يحق له ذلك ؟؟؟
طبعا إذا رأى أنه من اللازم تغيير اللون لأن هناك من لا يميز بين اللونين الأحمر والأخضر، ولذلك ولعلم من لا يعلم، وضعت ألوان الإشارات بعضها فوق بعض بطريقة عمودية كالتي نراها الآن.
وإذا رجعنا إلى قضايا الدين، وأخذنا مثلا العبادات ، فهي كما نعلم تدخل في الاعتقاد، ولا يمكن أن نمارس العبادات إلا إذا كان هناك تشريع إلهي بذلك وهذا الاعتقاد يحتاج إلى يقين واليقين هو القرآن الكريم الذي نؤمن مسبقا بصحته كمرجعية.
فلا يمكن أن نصلي مثلا أو نصوم أو نزكي أو نحج بدون أن تكون هناك إشارة قرآنية إلى ذلك.
وأما كيف نصلي ومتى نصلي، وما مقدار ما نزكي به، ليس من المفروض أن أجده مفصلا في القرآن ولسنا محتاجين إلى يقين مطلق.
فالعمل شيء والاعتقاد شيء آخر.
العقل يحتم علينا أن نستخدمه بشكل مغاير حسب الحالة المراد التعامل معها.
وإذا أخذنا الصلاة كمثال، وردا على ما أسيل حوله من مداد من لدن المحسوبين على بعض التيارات الشاذة،، فأصل التشريع قرآني وهو يقيني، فالله أمرنا بالصلاة في مواطن عديدة، أما طريقة الصلاة كما وكيفا (من الحيث العدد والكيفية) هي ظنية وهو ظن أقرب إلى اليقين منه إلى الشك، باعتبار هذه الطريقة متواترة بشكل فعلي وعملي ومتوافقة مع الطرح اليقيني ولا يتعارض معه.
فإذا كانت عدد الصلوات خمسة كما هي عليه الآن، هل كان سيكون هناك إشكال أو فرق إذا كانت أكثر من ذلك أو أقل ؟؟؟
الصلاة كما علمنا إياها رسولنا (ص) هي كما نعلمها اليوم وصلتنا بأفضل طريقة وهي التواتر الفعلي الذي لا يمكن أن يشوبه اختلاف وهي أولا وأخيرا مسألة تنظيمية ليتوحد حولها المسلمون جميعا.
إذن الاعتراض على الكم والكيف بحجة أن الموضوع يحتاج إلى استدلال وبرهنة لا أعتبره إلا رأيا شاردا، وهو اعتراض يحتاج بدوره وقبل كل شيء إلى دليل مقبول.
المسلم أمامه خياران في حالة الصلاة أو غيرها من العبادات :
- إما أن يقبل بما هو موجود وهي الطريقة المتواترة الموروثة أبا عن جد بشكل اتفق حوله كل المسلمين منذ 14 قرنا إلى الآن، وتوافق إلى حد كبير ما جاء في القرآن، ويكون في هذه الحالة حقق أكبر نسبة من المطابقة بين اليقيني والظني.
- عدم القبول بذلك، وتوهم كيفية أخرى للصلاة معتمدا على تفسيرات لغوية إنسانية أو استنتاجات نسبية لا تصل إلى درجة اليقين، ويكون في هذه الحالة المتبني لهذا الرأي شاردا عن قواعد العلم ومناهج الاستقراء التي تحتم عليه قبل كل شيء أن يدحض ويبرهن على خطأ الموجود وأن يكون دليله أقوى من جميع الجوانب، قبل أن يتصور شيئا جديدا.
وفي الحالة الثانية يكون هنالك تعطيل لعبادة تعتبر عماد الدين، في انتظار أن يتحقق تصور يقيني لطريقة الصلاة وربما لن يتحقق أبدا.
وهذا في حد ذاته، ليس من العقل في شيء.
ولذلك فأنا أصنف دائما مثل هاته المواقف فيما يسمى بالترف الفكري، وأنا أسميها كذلك، فلأنني أعرف مسبقا أنها مواقف تنهك العقل البشري بدون نتيجة، وأن الحسم فيها ليس متاحا مادام الخصم ينطلق من مغالطة منطقية يعتبرها منهجا علميا.
في الأخير أحب أن أؤكد، أن المطالبين بالبرهنة والاستدلال على بعض ما تواترناه عمليا، عليهم أولا أن يبرهنوا علميا وعقليا على تصورهم البديل.
وعليهم أن يعلموا أن التحقيقات والتدقيقات اللغوية لم تكن في يوم من الأيام حجة أو دليلا مادامت إنسانية ومصدرها إنساني ووحدها لا يمكن أن تشكل أداة للبرهنة بأي حال من الأحوال.
** الكاتب : وديع كيتان **