هذه الآية القرآنية تتكلم عن ظاهرة مجتمعية خطيرة مازالت سائدة لحد الآن وهي ظاهرة الإشاعة، ورغم أن الله عز وجل وضع فيها الحل المثالي للمشكلة بطريقة بلاغية ومختصرة، إلا أن فهمها السيء ساهم في إنتاج ثقافة قائمة على المزاجية والانتقائية وليس على القواعد العلمية، مما أثر سلبا في كيفية تعامل المسلمين معها بل وإهمالها حتى انتشرت الإشاعة بشكل كبير، ومازالت الأخبار الزائفة تخرب المجتمعات، بل وزاد في حدة انتشارها ما نُطلق عليه بالعولمة الرقمية.
هذه الآية القرآنية أنزلها الله سبحانه وتعالى بإيجاز جمع فيها المشكلة وأثرها وحلها في جملة قرآنية واحدة !!
ولذلك فهي مسألة ليس من السهل فهمها على ظاهرها، وتدبرها يحتاج إلى فهم رشيد، وإلى تأمل أكبر مما تناوله المفسرون التقليديون، والذين فهموه وفق ثقافتهم السائدة آنذاك، وسنوضح الأمر بالتفصيل إن شاء الله، ونطلب من الله التوفيق والسداد في الرأي.
بالنسبة لآية الكريمة قيد الدرس :
إذا أردنا أن نفسر الآية على ظاهرها، فمعنى الآية كالتالي:
إذا نقل إلينا فاسق أنباء أو أخبارا فيجب قبل ذلك التحقق والتأكد لكيلا نصيب قوما بجهالة، وبالتالي نندم على ما فعلنا تجاه هؤلاء القوم.
ولكن هذا التفسير يبقى غير واضح بل ويخلق إشكالات عدة، والأمر ليس من السهل معرفته بمجرد فهم الألفاظ، وذلك لعدة أسباب:
أولهما كيف نعرف الفاسق ؟
ثانيا : كيف يمكن التحقق؟ ومن ماذا؟ هل من فسق الشخص الذي نقل النبأ؟ أم من صحة النبأ المنقول؟ أم من الإثنين معا ؟
ثالثا : ما معنى أن نصيب قوما بجهالة ؟
وهذه الأسباب هي ما تجعل فهم مدلول الآية غير متاح بهذه البساطة، وأكاد أقول إن هذه الآية هي من الآيات التي إذا أحسننا تدبرها سوف تنتج مفهوما عظيما، وإذا أسأنا ذلك يمكن أن تؤسس لمفهوم خطير بل لثقافة بأكملها، وهذا ما سأبدأ به الدراسة بحول الله.
فقبل أن ندخل في تحليل الآية ونتدارسها، يجب أن أقدم معلومات تمكن المتلقي من استيعاب ما قلت عنه بخصوص الثقافة التي أنتجها فهم بعض السلف لهذه الآية، أو بالأحرى كيف استعملوها لتبرير منهجية معينة وهي ما عرفت بحجية الإسناد.
أولا ولمن لا يعرف بعد ما هو الإسناد، وماذا نعني بحجيته، فالإسناد هو طريقة أو منهج، إذا أردنا أن نكون كرماء، لمعرفة صحة الخبر المنقول عن النبي ﷺ باعتماد آلية البحث في أحوال الرواة هل هم من العدول الثقات أم من الفساق والمدلسين.
وطبعا ولأن هذا المنهج هو منهج قائم على الأمزجة والأهواء ولا علاقة له بالعلم لا من قريب ولا من بعيد، تم البحث على دليل قرآني يمكن أن يقوي اعتقادهم ويضفي عليه شيئا من المصداقية، فلم يجدوا غير هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد تدارسها.
فقالوا إن الآية تزكي اعتقادهم، وأن الوسيلة التي يمكن أن نعرف بها صدق الخبر هو أن نبحث في حال ناقله، فإن كان تقيا مشهورا بالورع فهو لا يكذِب فالخبر إذاً صحيح، وإن كان غير كذلك فالخبر مكذوب.
وهذا ما طبقوه على الأحاديث المروية عن النبي ﷺ فصححوا وضعفوا بناء على هذا الفهم الذي نعتبره فهما سقيما.
وحتى إن افترضنا إمكانية تطبيقه في وقته وتم التحقق من عدم فسق الناقل الأصلي للخبر، فكيف يمكن أن نفعل ذلك مع الرواة الذين ينتمي أغلبهم إلى الجيل الخامس بعد وفاة الرسول ﷺ ؟؟؟
ونعود إلى الآية قيد الدرس، وتعالوا نحاول فهم مدلولها بطريقة أكثر منطقية إن صح التعبير.
يجب أن نعرف أولا معنى الفاسق والفسق.
مبدئيا يمكن استنباط معنى الفسوق والفاسق من تدبرنا للآيات القرآنية الكثيرة التي تتطرق لهذا المصطلح، ولكن لا بأس بالاستئناس بما ورد في المعاجم اللغوية.
ما معنى الفسق لغة؟ نقول: فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ عَنْ قِشْرِهَا: اِنْفَصَلَتْ عَنْهُ
وهذا التعريف هو أفضل تعريف معجميـ لأن هناك آية في القرآن الكريم تحقق هذا المعنى.
وهي قوله تعالى :
فسق عن أمر ربه أي خرج عنه وعصاه، فالفسق انسلاخ عن طاعة الله.
وأما جل الآيات التي تتكلم عن الفسق تعتبره صفة وصف بها ربنا عز وجل الظالمين والكافرين والمشركين لخروجهم عن أمره وعن الدين بصفة عامة.
فالفاسق في القرآن الكريم وصف به الله تعالى الظالمين، والعصاة المكذبين بآيات الله تعالى.
والفسق وصف به الله تعالى ما ذبح لغير الله أو ما أهل به لغير الله، والاستقسام بالأزلام والذي يعني الاستخارة لغير الله، فباختصار هو الخروج عن دائرة المؤمنين الطائعين لله.
ونعود إلى الآية قيد الدرس : إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فقد ذهب جمهور المفسرين على أن مدلول الآية يراد به أن النبأ إذا جاء به الفاسق يجب التوقف فيه وطلب بيان الأمر وانكشافه.
وهذا أراه تفسيرا غير مقبول بل ويطرح إشكالات عدة :
أولها هو أنه لما كان من البديهي أن النبأ إذا جاء به الفساق لا يُقبل أصلا ناهيك عن أن نتبين أمره !!
لأن النبأ إذ ذاك يُعتبر وشاية من إنسان خارج عن أمر الله، فما هي الفائدة المرجوة إذاً من الآية تبعا لهذا الفهم؟
ثانيا: إذا كان لا يجب التثبت في الأمر إلا إذا كان صاحب النبأ فاسقا، فهل معرفة الفساق أمر متاح في كل زمان ومكان؟ فكيف يجب التعامل إذاً مع من لا نعرفه؟
ثالثا: كيف نفعل مع المنافقين الذين لا نعرف نواياهم ولا خباياهم؟ هل نهمل التثبت لمجرد أننا لا نستطيع تقييمهم؟
رابعا : هل من الضرورة أن يكون ناقل النبأ فاسقا لكي يكون النبأ مكذوبا ؟
لا طبعا، لأن هناك أسباب كثيرة تجعل النبأ كذلك، منها أنه سمعه من آخر ونقله دون تثبت، أو أن يكون توهما مثل أن يرى شخصا وهو لم يره فعلا، أو أن يُؤول أمرا على غير محمله، أو أن يخطأ في التقدير أو غير ذلك فالأسباب لا تعد ولا تُحصى.
كل هذه إشكالات تجعل الفهم السائد سقيما ولا معنى له !!
أما إذا أردنا فهم مدلول الآية عبر اتباع منهجية علمية، فلا بد من استنباط ذلك من القرآن نفسه، وهذا أساس قاعدة القرآن يفسر بعضه بعضا..
فكما قلنا من قبل ورجوعا إلى كلام الله تعالى، فالفاسق هو من عصى الله وخرج عن طاعته، إما بالكفر به أو الشرك به وهذا فسق كبير، أو بعصيانه بعد الإيمان به، وهذا فسق أصغر.
فبتدبرنا لهذه الآيات، نجد أن الفسق هو نتيجة لفعل معين أو أفعال معينة، وليس صفة مسبقة للإنسان.
وهذا هو الفيصل في القضية كلها.
وبالتالي فمعرفة فسق الإنسان تنكشف بعد أن ينكشف عمله السيئ.
وإذا تدبرنا آيات مشابهة للآية التي نحن بصدد دراستها، ونأخذ مثلا الآية التالية:
فالفسوق هنا هو نتيجة للمعاصي السابق ذكرها من سخرية الناس بعضهم لبعض ومن لمز وتنابز بالألقاب، فكل هذا يُخرج الإنسان من الإيمان إلى الفسوق.
وإذا لاحظنا هنا أن الفسوق لا يُوصف به إلا من فعل أفعالا اعتبرها سبحانه وتعالى أفعالا مشينة تُخرج صاحبها من زمرة المؤمنين.
فرمي المحصنات فعل لا يستهان به يمكن أن يهدم أسرة بأكملها، والسخرية من الناس إهانة لهم واللمز والهمز والتنابز كذلك فيه إهانة كبيرة، وهذا فسوق لا يليق بمؤمن.
وهذا ما يجهله أو يتجاهله كثير من المسلمين، بحيث لا يعيرون اهتماما لهذه المعاصي ويعتبرونها فقط ذنوبا صغيرة، وهي كما قلنا تُخرج مرتكبها من زمرة المؤمنين.
إذاً، وطبقا لما بيننا ووضحنا، فالآية الكريمة كأنها تقول :
إذا جاءكم نبأ خاص بقوم يستدعي أن تصيبوهم (أن تصيبوا قوما) وأنتم تجهلون الحقيقة (بجهالة) فتثبتوا قبل ذلك وتبينوا الحقيقة وصدق النبأ (فتبينوا) قبل أن تندموا على ما تفعلون. (وتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وإن تبين لكم عدم صدق النبأ فمن نقل إليكم ذلك من الفاسقين.
وطبعا الآية الكريمة جمعت هذا الكلام بصيغة بلاغية لكي نتعلم طرق القرآن في إلقاء الخطاب، فلغة القرآن هير غير لغة النصوص الأخرى، يجب التعامل معها بحسب السياق وبمقاطعتها مع آيات أخرى أكثر قربا من النص الإنساني، وهذا ما أتت به الآية القرآنية :
فهذه الآية لها تقريبا نفس مدلول الآية قيد الدرس، مع اختلاف أطراف القضية، فالفاسقون هنا هم الذين يرمون المحصنات بغير دليل وبغير شهادة الشهود الأربعة.
وفي آية :
فالفاسق هو الذي يأتي بنبأ لإفساد علاقة بين قوم وآخرين وهي وشاية لأنه تم التبين والتحقق منها.
وهذا العمل هو من أخطر ما يدمر الأسر بل والمجتمعات بأكملها، وبما أننا نعيش ثورة معلوماتية، فقد أصبحنا نلمس بلاغة الآية القرآنية، ولماذا وصف الله تعالى الذي ينشر المعلومة الزائفة والخبر الكاذب بالفاسق، فهو بعمله خرج عن دائرة الإيمان لأنه يخرب المجتمع المسلم، وهل هناك ذنب أو سيئة أكبر من هذا ؟؟
هذا ما تراءى لنا من تدبرنا للآية، والله أعلم.....
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))