الجنة حق... والنار حق....
كلنا نعلم أن الخطاب الإلهي يعتمد على الوعد والوعيد، على الترغيب والترهيب، على ذكر الجزاء الحسن والعقاب السيء، والجنة والنار، وهذه هي السُّنة الإلهية، فالكلام في الجزاء هو من صميم العقيدة، ومن صميم الرسالات النبوية.
ولكن للأسف، فموضوع الجزاء في الإسلام، موضوع لا يلقى الاهتمام الكافي لا من طرف الفقهاء الحاليين ولا السلف لأنه موضوع غير قابل للاستهلاك، فالناس يرعبها الكلام في الجزاء والعقوبة وكل ما يردع ويزجر، وتحب أن تسمع فقط ما يجعلها تسبح في بحار الأوهام التي يُبدعون فيها المشايخ الذين رأسمالهم قال وقيل... وحتى وإن تطرقوا لذلك، كانت معالجتهم معتمدة بالأساس على كلام الموروث، تغيب عنه المقاربة القرآنية، وتطغى عليه الضبابية.
أما في الموروث الإسلامي نجد ترهات بخصوص هذا الموضوع، مثل أن صيام أيام معينة هي كفارة للسَّنة التي قبلها أو بعدها، أو أن الحج أو العمرة يمحو كل ما ارتكب المسلم من ذنوب وسيئات، وما إلى ذلك، كله كلام باطل، لا يؤدي إلا إلى كسل ديني وإلى تواكل ممقوت، وبالتالي يزيد الطين بلة، ويستمر المسلم في ارتكاب المعاصي ظنا منه أنها ستُكفر بمجرد عمرة أو صيام ليالي محددة، وهذا قمة الاستهزاء بكلام الله الذي لا يقر بذلك.
وسط كل هذا العبث، كان لزاما علينا أن نتطرق لهذا الموضوع كما نفعل دائما مع كل المواضيع التي تطرقنا لها والتي كانت غائبة أو مدروسة بشكل سطحي لم يتم الفصل فيها أو الحسم في جزئيات عديدة بخصوص الموضوع، بل وتم الخلط بين مصطلحات بناء على روايات أو كلام مرسل لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة العملية للنبي ﷺ..
فبعد أن فصلنا في مقال سابق، المحرمات التي ذكرها القرآن الكريم، ووضحنا الفرق بين النهي والتحريم، وحسمنا في قضية من يحرم ومن ينهى، نأتي إلى قضية مهمة بخصوص هاته المحرمات والمنهيات، وهي خاصة بالعقوبة التي تنتظر مرتكبيها.
فكما تم الخلط بين المنهي والمحرم، تم كذلك الخلط بين الذنب والسيئة، وبين الخطإ والخطيئة، وبين مغفرة الذنوب وبين تكفير السيئات، وهلم جرا...
ولما كان الموروث بكل ما يحمل من مداد كثير، وبكل ما يتطرق له من قضايا ثانوية بل وتافهة تعد من الترف الفكري، كان لزاما علينا أن نتطرق لبعض المواضيع التي كانت غائبة أو مدروسة بشكل سطحي لم يتم الفصل فيها أو الحسم في جزئيات عديدة بخصوص الموضوع، بل وتم الخلط بين مصطلحات بناء على روايات أو كلام مرسل لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة العملية للنبي ﷺ.
من ثمرات هذه الدراسة أيضا، أننا سنُطعم دلائلنا بخصوص ما قدمناه حول الفرق بين النهي والتحريم، بدليل آخر هو تبيان اختلاف الجزاء والعقوبة بين من مرتكب المحرمات والكبائر وبين مرتكب الصغائر أو المنهيات التي لم يُحرمها الله وفقط نهى عنها، وبالتالي نتوصل إلى نتائج أهمها الإجابة عن السؤال أو بالأحرى الأسئلة التي تؤرق جميع المذنبين، وهي :
هل هناك عقاب في الدنيا أم فقط في الآخرة؟
ما الفرق بين الذنب والسيئة ؟
من ذا الذي سوف تُكَّفر عنه سيئاته؟
ومن ذا الذي سوف تُغفر ذنوبه؟
كيف ومتى ؟
فبعد أن بيننا الهدف والغاية من إثارة موضوع الجزاء في الإسلام، سنُفَّصِّل في هذا الجزء كل ما يتعلق بالعقوبات التي تنتظر مرتكبي الكبائر سواء في الدنيا أم في الآخرة.
مبدئيا : هناك العقوبة الدنيوية وهناك العقوبة الأخروية.
العقوبة الدنيوية:
لا وجود لها بالنسبة لمرتكب الصغيرة، لكن مرتكب الكبيرة وفي بعض الأحيان يمكن أن يطبق فيه الحد كالجلد بالنسبة للزاني، وقطع اليد بالنسبة للسارق.
وطبعا وحسب الإرادة الإلهية سوف يخضع أصحاب بعض الكبائر للعنة والخزي والعذاب في الحياة الدنيا.
من هم هؤلاء ؟
1. الملعونون في الدنيا :
يقول تعالى :
سورة الأحزاب
فأول الملعونين من يؤذي الله ورسوله.. وكيف يمكن أن تؤذي الله ورسوله؟
أولا المشركون والذين كفروا هم من قصدتهم الآية الكريمة، وهم الذين كانوا يؤذون الله بإنكاره ونسب الخلق إليه، وهذا أكبر أذى، ثم هم من آذوا النبي ﷺ ماديا ومعنويا.
ثانيا، وحاليا، أن تؤذي الله، يكفي أن تصفه بما لا يستحق، أو تنفي عنه القدرة على كل شيء...
كذلك التجسيم والتشبيه هو أذى لله، فالله ليس كمثله شيء، فهو منزه عن ذلك.
وأما أذى الرسول، فهو وصفه بما لا يصح، أو النفي عنه ما يستحق، أو الإساءة إليه بأن تروي عنه أمورا لم يفعلها، وهذا ما جاء في الحديث المتواتر: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
يقول تعالى :
سورة النور
هؤلاء الذين يفسدون سمعة المحصنات أي العفيفات الطاهرات المؤمنات، باتهامهن بارتكاب الفاحشة، وذلك من دون قرينة الشهداء الأربعة، فعقوبتهم في الدنيا الجلد، كما جاء في الآية الكريمة:
وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا۟ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَٰنِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا۟ لَهُمْ شَهَٰدَةً أَبَدًا وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ ﴿4﴾
سورة النور
وأيضا لا تُقبل شهادة هؤلاء، لأنهم كذابون وشاهدو زور، ثم يُحسبون من الفاسقين.
اللعنة التي تصيب هؤلاء، هي أن يُعرفوا لكي يصبحوا مرفوضين من طرف المجتمع، وألا تكون لهم أي قيمة ولا أي دور، لأن مصداقيتهم أصبحت منعدمة.
2. أصحاب الخزي في الدنيا :
الشعور بالخزي، هو شعور بالعار وبالذل والمهانة، ومن أصابه الله بالخزي، يُحس بالوضاعة والندم والاستصغار نفسيا طيلة حياته مالم يتب، إضافة إلى عدم الفلاح في حياته الدنيوية.
يقول تعالى:
سورة البقرة
يدخل في هذه الزمرة من يمنع الناس لدخول المسجد لغير سبب وجيه، أي من يفعل ذلك قصدا وهدفه ألا يُذكر اسم الله، وكذلك من يسعى في خراب المساجد سواء بطريقة مباشرة كهدمها أو عدم الترخيص لها والعمل على ألا تُقام أو تُؤسس.
عقوبة هذه الفعلة الشنيعة هي الخزي في الدنيا، وعذاب عظيم في الآخرة.
للتذكير: ولا يدخل في هذه الزمرة من يمنع إتيان المساجد وقت الأوبئة أو لحالة خاصة من أجل الحفاظ على صحة أو أمن الناس.
لأن الأعمال بالنيات...
وهناك صنف من الناس سيُصيبهم الله بالخزي في الدنيا قبل أن يُعذبهم في الآخرة.
وهم الذين ذكرهم الله في آية الحرابة :
سورة المائدة
هذه الآية تتكلم عن عقوبة الذين يحاربون الله ورسوله و يفسدون في الأرض، وهذه الحرب هي مجازية، والمقصود هم:
وقت الرسالة كل من عصى الرسول ﷺ ، وكل من حارب كلام الله بعدم الامتثال إلى أوامره ووقف ضد انتشار الرسالة المحمدية بشتى الطرق.
ثم حاليا، أولئك الذين يحاربون الله الآن، بالسعي في الإفساد في الأرض بشتى أنواع الطرق، وتعدي حدود الله، كالقتل وسفك الدماء، والحرق والتخريب، والسطو على أموال الناس، وهتك الأعراض، وما إلى ذلك.
وتنطبق هذه الآية خصوصا على العصابات المنظمة وغيرها، والذي يتخذون من هذه الأفعال الشنيعة حرفة ولا يهمهم لا دين ولا سلطة ولا يردعهم لا قانون ولا أي شيء.
هؤلاء وجب فيهم التقتيل أو التصليب أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من البلاد، وذلك أضعف الإيمان، وهذه العقوبات طبعا هي بحسب نوع الجريمة المرتكبة وفداحتها.
ثم بعد العقوبة، فلهم خزي في الدنيا، وأما في الآخرة فلهم عذاب عظيم.
3. أصحاب العذاب في الدنيا :
لا ندري ما شكل العذاب الدنيوي الذي ينتظر من يستحقونه؟؟
هل هو عذاب نفسي أم آلام جسدية بأمراض خطيرة، أم عذاب الضمير المؤرق أم الاكتئاب النفسي؟؟؟
ولكن يمكن استنباط بعض المعاني من بعض الإشارات القرآنية:
الآية التي تتكلم عما أصاب النبي أيوب :
فهنا العذاب، الضر والمرض الذي أصابه، وقد نسبه النبي أيوب إلى الشيطان تأدبا مع الله سبحانه وتعالى.
ثم الآية التي تصف الجَلْدَ بالعذاب، لقوله تعالى :
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ
فالعذاب إذن هو الأذى الكبير الذي يسببه المرض أو العقوبة أو أي شيء من هذا القبيل، كان جسديا أو نفسيا.. والله أعلم...
من هم الذين يستحقون العذاب الدنيوي إذن ؟
يقول تعالى:
سورة النور
كما قلنا من قبل فالفاحشة في القرآن الكريم تأتي دائما بمعنى العلاقة الجنسية المحرمة، هذه الآية تتكلم عن العقوبة الدنيوية والأخروية التي تنتظر الذي يحب إشاعة الفاحشة فقط، فكيف بالذي يدعو إليها؟
من هم الذي يحبون أن تشيع الفاحشة؟
- يدخل فيهم مثلا من يرخصوا لما يسمى بالعلاقات الجنسية الرضائية، أي الزنا بالمعنى الحقيقي.
- ويدخل فيها قبلهم من يدافع عنها ويقول إنها حرية شخصية.
- كذلك من يرخص لما يسمى بالمثلية الجنسية أو الشذوذ الجنسي أو اللواط، والذي يدافع عن حقهم في ممارسة الرذيلة والفاحشة.
هؤلاء توعدهم الله بالعذاب في الدنيا والآخرة..
كانت هذه أهم الحالات التي ذكرت في القرآن الكريم والتي تستوجب العقوبة الدنيوية.
هنا لا بد أن نشير إلى أنه ليس هناك شيء اسمه عقوبة الرجم في حق الزاني المحصن كما زعم أهل السلف الذين قالوا بذلك بناء على وهم ما يُسمى بالناسخ والمنسوخ، ولنا بحث مفصل حوله في موقعنا، وبيننا فيه أنه ليس هناك لا ناسخ ولا منسوخ، وأما موضوع الرجم، فلا يحتاج الأمر إلى بحث مفصل لكي نحسم في الأمر، فيكفي أن نذكر آيتين بإمكانهما الفصل في الأمر.
أول دليل على ذلك، ما تقوله الآية الكريمة:
نصف العذاب !!
هل هناك نصف الرجم؟ الرجم هو في الأخير قتل، وليس هناك نصف القتل!!!
ثم ليس هناك عقوبة يطبق فيها القتل، إلا القتل نفسه، وهذا هو القصاص العادل، أما زنا تتولد عنه عقوبة قتل، فهذا افتراء على الله ليس بعده افتراء..
ثم يزعم بعض أتباع الموروث أن هذه الآية نُسخت بآية الرجم، ولكن بقي حكمها ثم حُذفت من القرآن!! يعني هل من المعقول أن تُحذف الآية الناسخة، وتبقى الآية المنسوخة؟؟ مجرد تكرار كلام من غير تفكير ولا إعمال للعقل.
ثم الدليل الثاني التي تأتي به الآية التالية والتي تنفي عقوبة الرجم جملة وتفصيلا، فالله تعالى يقول:
سورة النساء
هنا يأمر الله تعالى بوضوح أن يمسك الأزواج نساءهن اللواتي ارتكبن الفاحشة في بيوتهن إلى أجل غير مسمى، فإما يستمر الحبس في البيت حتى الموت، أو أن يطلقن ويغادرن بيت الزوجية أو يتُبن ويتم العفو عنهن بحسب مشيئة الله.
فأين الرجم هنا؟ ومن يدعي أن هناك آية للرجم قد حُذفت؟
لقد انتهينا من معظم الحالات إن لم تكن كلها والتي وردت في القرآن الكريم بخصوص العقوبات الدنيوية.
العقوبة الأخروية :
هذا الشق الثاني من العقوبات والذي يمثل الجزاء الأخروي، أي ما توعد الله عصاته باختلاف مستوى عصيانهم وذنوبهم وسيئاتهم.
قبل أن نتكلم عن هذه العقوبات، يجب أن نعي أن التوبة تمحي جميع المعاصي والذنوب كانوا صغائر أم كبائر، مصداقا لقوله تعالى في آيات عديدة :
سورة النساء
ولكن عبارة "من يشاء" يجعل الأمر غير تلقائيا، لأن هناك آيات كثيرة والتي ذكرنا بعضها من قبل، تشترط التوبة بالإيمان والعمل الصالح، فكيف يمكن أن نفصل في هذا الإشكال؟
بصيغة أخرى، كيف يمكن أن يغفر الله تعالى لأي ذنب ما عدا الشرك؟ وما جدوى التوبة والعمل الصالح؟
طبعا لا يمكن الحسم في هذا الإشكال إلا بتوضيح الفرق بين الذنب والسيئة، ولمعرفة ذلك، يجب أن نفهم الفرق بين المغفرة والتكفير، وبالتالي يمكن أن نستنتج متى يمكن أن يغفر للعاصي ولو دون توبة ومن المقصود بهذه الآية 48 من سورة النساء؟
يتبع......
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))