بالنسبة لما جاء في الموروث، يعتبر مفهوما الذنب والسيئة مترادفين، فتم للأسف الخلط بينهما مما ضلل الناس، وأنتج مفاهيم أخرى مغلوطة أثرت في العقيدة، لأن كل ما هو مرتبط بمصير الإنسان من جنة أو نار، هو من صميم العقيدة.
لن نتبع المنهج الكلاسيكي، بأن نبدأ بتعريف المصطلحين، أولا لأن هذا المنهج لا يصلح دائما مع المصطلحات القرآنية، فتعريف المعاجم مبني أصلا على مفاهيم سابقة كونها أُلفت بعد نزول القرآن بقرون، ثم ثانيا، لأن الترادف موجود بكثرة في المعاجم.
فمثلا، إذا بحثت عن معنى كلمة «ذنب» ستجد لها مترادفات مثل إثم، ومعصية، وغيرها، وطبعا هذا ليس بالصواب.
ولذلك فهذا المسلك غير ذي قيمة، فلكي نصل إلى معاني المفردات القرآنية يجب أن نتبع منحىً عكسيا، أي فهم السياق كما جاء في القرآن الكريم، ثم استنباط المدلول واستنتاج المعنى من خلال كيفية استخدام تلك المفردات، ومن ثم تكوين مفهوم شمولي للمصطلح.
إن التفريق بين الذنب والسيئة، هو أمر مهم بل ضروري لفهم الإشكالات العديدة التي لا يمكن حلها إلا إذا استوعبنا هذا الفرق.
وكمثال على نوع من هذه الإشكالات، هو ما توقفنا عنده سابقا عندما استشهدنا بالآية التالية :
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا ﴿48﴾ سورة النساء
والتي أعيدت بنفس الصيغة في نفس السورة :
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا ﴿116﴾ سورة النساء
ففي هذين الآيتين يبين سبحانه وتعالى أنه يغفر يوم الحساب لمن يشاء إلا أن يُشرك به.
ولماذا قلنا يوم الحساب؟ لأن الشرك هنا جاء مستثنيا من المغفرة، وأما الذي تاب من بعد شركه لم يعد مشركا، فالله عندئذ سيغفر الذنوب جميعا قبل يوم الحساب، كما وعد الله في كتابه حين قال :
قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا۟ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ﴿53﴾ سورة الزمر
وإذا رجعنا إلى الآيتين السابقتين، فالذي لا يعرفه جل الناس بعوامهم وحتى بعض فقهائهم، أن مسألة المغفرة ليست على الإطلاق، بل تخص فقط الذنوب، وليس السيئات، فلو لم نوضح الفرق بين الذنب والسيئة، ولو لم نؤكد أن المغفرة تخص الذنوب وحدها، لما علمنا مدلول الآيتين.
بل وهناك من المفسرين من أدخل حتى الكبائر في زمرة الذنوب التي يغفرها الله، وهذا خطأ فادح.
ووفق الفهم الخاطئ لهذه الآية، رويت أحاديث أراها موضوعة أو أن الذي رواها فعل ذلك بناء على وهم بأن الله يغفر كل ما ارتكبه المؤمن، يكفي أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فسيدخل الجنة مهما ارتكب من معاصي !!!
والوهم هنا متعلق بمسألتين، أولاهما أن المغفرة تخص فقط الذنوب، ولا تخص السيئات، وثانيهما، أن الله يغفر لمن يشاء، أي أن المسألة ليست تلقائية، والمسألة ليست عبثا !!!
وهذا يؤسس لمبدأ خطير في العقيدة لا يقر به القرآن الكريم في كثير من آياته، والتي تؤكد أن الله يجازي الناس بما يعملون، وأن الإيمان بالله ورسوله لا يضمن الدخول إلى الجنة، وإلا ففي أي خانة يمكن أن نضع المنافقين؟
فهؤلاء يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكن يرتكبون ما حرم الله بشتى الطرق والحيل !!
ولهذا فنحن لما قررنا الخوض في قضية الجزاء في الإسلام، فعلنا ذلك بناء على تصورات خاطئة لبعض جوانب هذه القضية، وأهمها الخلط بين الذنب والسيئة، وما يترتب عنهما.
الفروقات بين الذنب والسيئة:
من خلال تدبرنا لما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصطلحات الذنب والسيئة وما يتعلق بهما، استجلينا بعض الفروقات بين الذنوب والسيئات، ولكن الفرق الأساسي الذي يستحق الذكر هو:
الذنوب تُغفر والسيئات تُكَفَّر
ومن خلال شرحنا الآتي سوف تتضح الفروق الأخرى المستنبطة.
الدليل:
سوف نذكر فقط آيةً واحدة نراها واضحة والاستشهاد بها كافٍ، لأن كل الآيات تنحو نفس المنحى، وسوف يأتي ذكر بعضها على كل حال:
رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلْإِيمَٰنِ أَنْ ءَامِنُوا۟ بِرَبِّكُمْ فَـَٔامَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلْأَبْرَارِ ﴿193﴾ سورة آل عمران
وفي كل الآيات يستعمل اللفظ المناسب (غفر) للمصطلح المناسب (ذنب)، ولفظ (كَفَّر) للمصطلح الذي يناسبها وهو (سيئة).
ولكن للأسف مازلنا نجد تعبيرات متداولة، يمكن أن تجدها أيضا في المعجم، من قبيل غفر السيئات وكفر الذنوب.
في حين تجد القرآن الكريم لا يخلط اللفظ مع ما لا يناسبه.
غفر يعني عفا وسامح وهو أيضا المعنى المستنبط من سياق الآيات، وبشكل عام يأتي مصطلح "غفر" و"استغفر" ومشتقاتهما مرتبطا بمصطلح الذنب والذنوب.
فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلْإِبْكَٰرِ ﴿55﴾ سورة غافر
والاستغفار هو طلب المغفرة، والله تعالى يأمر عباده دوما بالاستغفار.
أما مصطلح «كفرَّ» فستجد في المعجم كذلك نفس معنى غفر، أي سامح وعفا، وستجد أيضاً محا محواً.
وهذا المعنى الأخير هو الأكثر ملائمة، لأن الجذر الأصلي ل «كفرَّ» هو «كفَر» والذي يعني غطى وستر، وهو نفس المعنى تقريبا لمحا، فالنتيجة واحدة.
في القرآن الكريم، ستجد لفظ كفرَّ لا يُستعمل إلا مع لفظ سيئة، ولاستجلاء معنى كفر، تعالوا نرى مشتقات اللفظ، مثل مصطلح كفَّارة.
الكفارة في القرآن هي وسيلة تعويض للتوبة عن معصية أو محو سيئة عملها المسلم.
إذن نحن بقينا في نفس المعنى، وهو التغطية والستر والمحو.
نأتي الآن لاستنتاج معاني الذنوب والسيئات بناء على ما بيننا من معاني للغفران والتكفير.
معاني الذنوب والسيئات:
مبدئيا الذنب والسيئة كلاهما معصية، والمعصية ضد الطاعة، وهما نتيجتان لأعمال غير سوية من ناحية الشرع.
ولكن بالمقابل، الذنب والسيئة غير مترادفين ولو جمعهما نفس المعنى المذكور سابقا، فأين يختلفان يا ترى؟
الذنوب:
قبل استجلاء معنى الذنب، وحين تدبرنا للآيات القرآنية المتعلقة به، استوقفتني الآية التالية:
يقول تعالى:
وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا۟ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا۟ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُوا۟ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلُوا۟ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿135﴾ سورة آل عمران
هنا جاء وصف الفاحشة وظلم النفس بالذنوب، وهو ربط غير عشوائي.
فالفاحشة وكما قلنا من قبل في حلقات النهي والتحريم، هي العلاقة الجنسية المحرمة، مثل الزنا واللواط، وهنا وحده مرتكب الفاحشة هو الذي يتحمل سوء العاقبة وهو من سيتأذى من عمله، ولا أحد غيره.
وهذا في حد ذاته ظلم للنفس، أو حالة واحدة من حالات عدة يسيء فيها الإنسان لنفسه.
وإذا استعرضنا الآيات التي تتكلم عن ظلم النفس وما يستوجب فعله لمن ظلم نفسه، نجد الاستغفار كوسيلة للتوبة.
انظروا قوله تعالى أيضا :
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُوا۟ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُوا۟ ٱللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ﴿64﴾ سورة النساء
وقوله تعالى :
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ ﴿23﴾ سورة الأعراف
إذاً فنحن هنا نتكلم عن معاصي يظلم فيها العاصي نفسه، وهي غالبا لا تلحق غيره، ومن ضمنها الشرك أيضا، لأن المشرك بفعله هذا يظلم نفسه فقط.
إلى هنا تتحقق الفرضية التالية:
الذنب لا يسيء فيه مرتكبه إلا لنفسه ولا تتعداها لغيره.
وبالتالي فالمغفرة تخص من يسيء إلى نفسه فقط دون غيره.
وأما الآية التي شيبتني عند دراستها، فهي الآية :
وَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿110﴾ سورة النساء
جاء الاستغفار كدواء لظلم النفس، وحتى لعمل السوء !!
فكيف يمكن فهم «يعمل سوءا» من خلال سياق الآية؟
بحول الله أعتقد أني استطعت أن أفك الإشكال الذي يمكن أن يتبادر للذهن للوهلة الأولى.
وكما قلنا من قبل، أن السياق يحكم على فهمنا للآية، ولا يصح أخذ المعاني بتفسير الآية كلمة كلمة..
فمن الأرجح أن كلمة «نفسَه» في الآية، تعود أيضا على «من يعمل سوءا» كما تعود على «من يظلم»، يعني كقولنا «من يعمل سوءا لنفسه ويظلم نفسه» ولم يكن من الفصاحة والبلاغة أن تأتي العبارة بذلك الشكل وبهذه الصيغة في القرآن، وإلا ستكون ركيكة، وأعتقد أن الصواب أن تأتى بالشكل الحالي التي ذكرت في الآية، ناهيك عن أنه لا يمكن أن يكون عمل السوء في هذه الآية بالمطلق، والله أعلم.
وطبقا لما قلنا، فتعريف الذنب كما يمكن أن نستنتج مما سبق ذكره:
هو المعصية التي يرتكبها المسلم ولا يسيء فيها إلا إلى نفسه فقط.
والذنوب قسمان:
كبار الذنوب مثل الشرك والفواحش، وهي تحتاج إلى توبة.
وصغائر الذنوب وهي اللمم كما سماها الله في الآية التالية:
سورة النجم
واللمم وإن كان من السياق ربما تعني صغار الذنوب من الفواحش، ولكن يمكن إسقاطها على أي ذنوب أخرى.
وغالبا ما تكون صغائر الذنوب مرتبطة بزلات لسان أو تصرفات غير أخلاقية أو أعمال غير متعمدة لا يسيء فيها الإنسان للآخر وإلا أصبحت سيئات.
كمثال : بعض المنهيات في القرآن الكريم، أو حتى بعض ما نهى عنه النبي ﷺ، باستثناء المحرمات، هي في أكثرها ذنوب صغيرة، كالتي جاءت متعلقة بغض البصر، أو باجتناب الظن، أو بعدم تمني ما لدى الغير، أو المشي بخيلاء وتكبر أمام الناس، وبعدم الإسراف في الأكل والشرب......وغيرها.
وقد تكون الذنوب مرتبطة بتقصير في العبادات، كترك يوم صلاة أو ركعات أو يوم صيام سهوا، أو نسيان منسك أو شيء من هذا القبيل، ولذلك فربنا عز وجل يمكن أن يتساهل فيها لأنها بين المذنب وربه، وهو يغفرها بمجرد الاستغفار أي طلب المغفرة، إما بالدعاء أو بالذكر أو بالتسبيح أو بالصلاة...
ولكن هل هناك شروط معينة ومطلوبة لكي يتم قبول الاستغفار، وبالتالي مغفرة الذنوب؟؟
بتدبرنا لآيات القرآن الكريم، وجدنا ان هناك شرطا وحيدا، وهو أن يكون المذنب مؤمنا:
سورة آل عمران
وبالمناسبة، فمقاطعة الآيتين السابقتين، هي التي مكنتنا إضافة إلى تأملات أخرى، من استنتاج معنى الإيمان والفرق بينه وبين الإسلام والذي سنُفرد له بحثا مفصلا إن شاء الله.
انتهينا من الكلام حول مصطلح الذنب، وفيما يلي سنتطرق إلى السيئة، والتي يبقى استنتاج معناها ميسرا.
السيئات:
وأما السيئة وكما سبق ذكره، فاستنتاج معناها يبقى أيسر، فإذا كانت المعصية قسمان، الذنوب والسيئات، وإذا كانت الذنوب هي ما ارتكب المذنب في حق نفسه، فالسيئة هي :
السيئة هي المعصية التي يرتكبها المسيئ في حق الآخر
وعلى عكس الذنوب، فالسيئات لا يكفيها الاستغفار، بل تحتاج إلى التكفير، أي إلى وسيلة وطريقة وعمل لكي تُمحى من صحيفة المسلم.
وهذا هو العدل الإلهي، فلا يُعقل أن تتم الإساءة إلى خلق الله بشتى الطرق، ويتم التعامل معها بتساهل، فالأمر ليس عبثا.
ولذلك فالسيئات أكبر وزنا من الذنوب، ويمكن أن تهوي بمرتكبها إلى النار إذا لم يتم التكفير عنها.
سورة البقرة
وبما أن السيئات لا تُغفر مثل الذنوب بمجرد الاستغفار، أي لا يكفيها الاستغفار والذكر، فهي تحتاج إلى تكفير والتكفير يحتاج إلى شروط وأدوات ذكر الله سبحانه وتعالى بعضها وترك الأخرى للاستنباط بناء على إشارات ومقاربات مع آيات الكفارات.
يتبع....
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))