السيئات ليست كالذنوب لكي تُغفر بمجرد الاستغفار، أي لا يكفيها الاستغفار والذكر، فهي تحتاج إلى تكفير والتكفير يحتاج إلى أدوات وقبلها إلى شروط ذكر الله سبحانه وتعالى بعضها وترك الأخرى للاستنباط بناء على إشارات ومقاربات مع آيات الكفارات.
قبل التطرق إلى الشروط والأدوات، فبصفة عامة، الإيمان والعمل الصالح، هما مفتاحا الجنة، وبهما تُمحى كل السيئات، مصداقا لقوله تعالى :
سورة الفرقان
وأما الإشكال الذي يستوجب حلا، هو نوعية وماهية هذه الأعمال الصالحة التي يمكن من خلالها التكفير عن السيئات المرتكبة.
فيما يأتي سوف نحدد ما هي هذه الأعمال، أو بعضها كما ذكرها الله في كتابه، كمثال لكي يستنبط منها المؤمن ما يجب عليه فعله لكي يُكفر الله عنه سيئاته.
قبل ذلك، وكما بيننا بخصوص الذنوب، يجب أن نعلم شروط تكفير السيئات.
الشروط:
- شرط الإيمان:
قوله تعالى :
شرط الإيمان ضروري لكي يُكفر الله السيئات كما أنه ضروري لمغفرة الذنوب.
نشير إلى أمر مهم يخص شرط الإيمان، فالإيمان هو إيمان بالله وبكل الرسل، إلى غاية خاتم النبيئين، وهو محمد ﷺ، وهذا ما تؤكده الآية التالية:
سورة محمد
وبالمناسبة، هذه الآية يمكن أن تفك الإشكال الحاصل المرتبط بالفرق بين الإسلام والإيمان، ونؤكد أنه إذا كان الإسلام هو الدين الذي ابتغاه الله للناس منذ إبراهيم إلى محمد ﷺ، فالإيمان لا يكون مكتملا إلا إذا شمل جميع الرسالات بما فيها الرسالة التي جاء بها محمد ﷺ، وبهذا الإيمان فقط، يمكن أن يتأتى تكفير السيئات....
- شرط الابتعاد عن المحرمات:
أهم شرط لتكفير السيئات هو الابتعاد عن الكبائر أي المحرمات.
مصداقا لقوله تعالى:
سورة النساء
هذا شرط واضح يقطع الطريق أمام مرتكبي الكبائر، فالابتعاد عنها هو السبيل الوحيد لترجي محو السيئات.
والآية توضح بطريقة أخرى أن مرتكب الكبائر خارج من رحمة الله وكرم الله.
الأدوات:
أما الأدوات أو السبل التي تخول لمرتكب السيئات التكفير عما اقترف في حق الآخرين، وهي بكل بساطة الأعمال الصالحة، فيجب أخذها من آيات القرآن التي توضح ذلك، أو استنباطها من آيات أخرى عن طريق تطبيق قاعدة تقاطع الآيات.
- إيتاء الصدقات:
قوله تعالى :
سورة البقرة
هذه آية تبين بشكل واضح أن الصدقات وسيلة لتكفير السيئات، وخصوصا تلك التي يخفيها المتصدق كما أكدت على ذلك الآية الكريمة.
ولا غرابة في ذلك، لأن في التصدق تطهير لمال المؤمن، وإعانة للفقراء والمساكين، فهو إذن عمل صالح.
ولكن يجب الانتباه إلى أن الصدقات هي فقط آلية من آليات تكفير السيئات، فكما جاء في الآية، فالله تعالى قال :«من سيئاتكم» ولم يقل «سيئاتكم»؟
والمقصود في الغالب هو أن الصدقات لا تكفر جميع السيئات، بل فقط بعضها والتي في الغالب غير متعلقة بإرجاع الحقوق إلى أصحابها الذي يعتبر من الأولويات، أو يمكن أن تكون مكملة لآليات أخرى.
وهذا التنبيه مهم لمن يعتقد أن الصدقات كافية لتكفير السيئات، فيشجعه ذلك على الاستمرار في ارتكابها ثم محوها بالصدقات.
- التضحية في سبيل الله:
قوله تعالى :
سورة آل عمران
كل من ضحى بنفسه في سبيل الله وتعرض للأذى والتشريد ومات وهو يدافع عن حقه أو حق المسلمين فستُمحى سيئاته ويدخل الجنة كثواب لما عمل.
- التقوى :
سورة الانفال
طالما أن التقوى هي الهدف الأساسي والأسمى من العبادة، وهي مفتاح الجنة، فمن الطبيعي بل من المؤكد أنها أداة أو بالأحرى حل للتكفير عن السيئات.
وفي هذا الباب يجب أن ننبه أن الآية جعلت التقوى وسيلة لمحو السيئات الذي ارتكبها المؤمن سلفا، أما وقد أصبح من التقاة، فلا سبيل إلى الرجوع إلى ارتكابها، وإلا فيجب أن يعمل عملا صالحا لكي تُكفر عنه سيئاته.
ومادامت التقوى هي في الأصل غاية، يحث عيها الدين كمبدأ رئيسي، فيمكن القول بناء على ما استنبطناه أن التقوى هي في نهاية الأمر إيمان وعمل صالح.
بالنسبة للأعمال الصالحة الأخرى التي يمكن أن تُكفر عن السيئات، فيمكن أن نستنبطها باستعمال القياس مع الكفارات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بخصوص أفعال بعض المسيئين، مثلا في قوله تعالى:
سورة النساء
هذه الآية تتحدث عن كفارة القتل الخطأ وهي تحرير رقبة ودية مسلمة أي التعويض المادي بلغة العصر.
ومثلها آيات أخرى، تشترط بالنسبة لكفارة اليمين المتعمد، الصدقة بالإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة.
وبصفة عامة، وشخصيا أرى بناء على ما ذكرنا، أن الأعمال الصالحة التي يُكفر بها السيئات هي من المفروض أن تكون مقرونة بنوع السيئة المرتكبة وبفداحتها.
فمثلا بالنسبة لصغائر السيئات، يمكن الاكتفاء بالصدقات، أو بالصيام لمن لم يستطع لذلك سبيلا.
أما بالنسبة للكبائر، فهي تحتاج إلى أعمال صالحة بضخامة الجرم المرتكب، وسميت صالحة لأنها تصلح ما فسد.
- كبيرة القتل العمد:
فمثلا إذا أخذنا القتل العمد، فهذه كبيرة توعد الله مرتكبها بالنار مخلدا فيها، والآية واضحة:
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا ﴿92﴾ سورة النساء
وهنا اختلف السلف في هل لقاتل المؤمن من توبة؟، ولكن الأكثرية قالت بجوازها، ونحن من هذا القول، نسبة إلى آية «عباد الرحمن» الواضحة التي تستثني التائبين المؤمنين من العذاب إن هم عملوا صالحا، يقول تعالى:
سورة الحجرات
ولكن الإشكال وهو بيت القصيد، في شرط قبول التوبة من لدنه عز وجل، والمرتبط بنوع العمل الصالح الذي يمكن أن يمحو به كبيرة القتل.
فمبدئيا، وكما جاء في حالة القتل الخطأ، فالمفروض على الأقل تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهل المقتول.
ثم ينبغي بعد ذلك أن يكرر القاتل التائب هذه الأعمال قدر المستطاع، ثم أن يترجى الله أن يمحو بتلك الأعمال ما قام به من جرم.
كما أن بإمكان القاتل التائب أن يفعل ما يمكن أن يكون تكفيرا حقيقيا عن جرمه، كأن يقوم مثلا بإحياء نفس مثلا، إما بإنقاذها من الموت بأي طريقة كانت، بإسعاف غريق أو مصاب في حادثة سير أو غيرها...
وهذا العمل يعتبر كتعويض للنفس التي قتل بدون وجه حق، وهذا ما قصدنا قوله آنفا بالعمل الصالح الملائم لنوع الكبيرة المرتكبة.
فلا يُعقل مثلا أن يتم قتل نفس عمدا ويتم التكفير عن هذا الفعل الإجرامي بصدقة أو صلاة وصيام !!!
فمع غياب التفصيل في كيف يمكن تكفير القتل العمد، يبقى كل ما قلنا اقتراحات واجتهادات، وأعتقد أن عدم ذكر ذلك، هو نوع من التغليظ لردع الناس عن ارتكاب جرم القتل، لأنه خطئ كبير، والله أعلم.
- كبيرة أكل أموال الناس بالباطل:
بالنسبة للكبائر الأخرى هناك مثلا أكل أموال الناس بالباطل، ويدخل فيه كل ما اكتسب بالحرام وبطريقة غير شرعية، إما بالنهب والاستيلاء على أموال الناس، أو ببيع المحرمات من خمر ومخدرات بحميع أنواعها، أو بالاحتيال والنصب، والأمثلة كثيرة، وهذه الأعمال توعد الله مرتكبيها بالعذاب الشديد، والتكفير عنها يقتضي بعد التوبة، القيام بعمل صالح يتوافق مع طبيعة الجرم المرتكب، أولا بإرجاع المال إلى مستحقيه، ودفع الأموال التي اكتسبها صاحبها بالباطل إلى بيوت الزكاة والتصدق بها، وعمل الخير، وأن يعقب ذلك الرجوع إلى الله والاستغفار والعمل على معالجة ما أفسد بعمله السابق قدر المستطاع.
مثلا توبة المتاجرين بالمخدرات تقتضي على الأقل بناء مصحات للقضاء على الإدمان كأضعف الإيمان.
- كبيرة الظلم:
ظلم الناس بأي طريقة كانت هي عند الله من أكبر الآثام التي توعد الله مرتكبيها بالعذاب والخزي، والتائب يُشترط لمحو سيئاته، أولا إرجاع الحقوق المسلوبة من المظلوم والاعتذار إليه، وتقديم التعويض المناسب له، ثم العمل ما أمكن ذلك على إصلاح الأمور التي ساهمت في وقع الظلم والجور، والتعاون لإبطال عمل الظالمين إما بالنصيحة أو بأي أسلوب شرعي.
وهكذا....
خلاصة:
باختصار:
المفاهيم المستنبطة الأساسية وفق ما شرحناه آنفا، هي:
الذنب هو المعصية التي يرتكبها المسلم ولا يسيء فيها إلا إلى نفسه فقط.
الشرك من كبار الذنوب، ومن صغائر الذنوب ترك عمل تعبدي أو جزء منه سهوا أو كسلا.
السيئة هي المعصية التي يرتكبها المسيئ في حق الآخر
الذنوب تُغفر والسيئات تُكَفَّر
الإيمان شرط ضروري لمغفرة الذنوب أو تكفير السيئات
الابتعاد عن الكبائر أهم شرط للتكفير عن السيئات
الأعمال الصالحة هي فقط التي تكفر السيئات وأبوابها كثيرة، كمثال: أعلاها التضحية في سبيل الله، وكل أعمال البر والإحسان من صدقات وغيرها، والإحسان إلى الناس بما يساهم في الحفاظ على حياتهم وصحتهم.
أخيرا وليس آخرا:
بقي أن نعرف كيف يمكن أن يضمن المسلم النتيجة لصالحه ولو ظنا؟ لأن الله وحده من يستطيع أن يجزم بالجزاء المستحق.
يقول تعالى :
سورة هود
وكما جاء في الحديث المشهور عن نبينا محمد ﷺ :
« اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ »
فالطريقة الأضمن إذاً هي كسب حسنة عقب كل سيئة، هذه الحسنة بدورها تضاعف بعشر أمثالها، وبالتالي يكون الميزان أثقل بالحسنات.
والحسنات تدخل فيها أبسط الأعمال بدءا بالكلمة الطيبة وإماطة الأذى عن الطريق، ومرورا بأعمال الخير من صدقات والتي تعين الناس على قضاء حوائجهم، وتعليم الناس والقضاء على الجهل، والحفاظ على صحة الناس وأرواحهم، حتى نصل إلى أعظم الأعمال بالتضحية بالمال والجهد والنفس في سبيل تحقيق الأمن والأمان والدفاع عن البلاد والعباد ضد الأعداء والعمل على نشر الفضيلة والتسامح والمحبة ونبذ الكراهية والخلاف المجاني والحفاظ على وحدة الوطن واتقاء الفتنة.....
إن ما استنبطناه في هذه القضية من مفاهيم، وما وصلنا إليه من استنتاجات، والتي اعتمدنا فيها بشكل خاص على المقاربة القرآنية، ليس كلاما أحاديا أو شاذا كما يمكن أن يظن بعض الذين لا يحيطون علما بأصول الدين، ولكن له أصل، كما يعرف المتمرسون والعلماء الراسخون، وقد ذُكر بعضه في الموروث ولكن ليس بهذه الطريقة المفصلة والمنمقة، والسلف بعلمائهم وفقهائهم هم بشر، قد أحسنوا في أشياء وربما قصروا في أخرى، وللأسف ما وصلنا من موروث، هو خليط غير متجانس من الصالح والطالح، مما جعل حاطبي الليل من مشايخ التدين السطحي الذين ليس لهم من رصيد معرفي وعلمي وشرعي إلا الزبد، ينقلون الغث والسمين دون تمحيص ولا نقد علمي منهجي، مما كون للأسف ضبابية لدى بعض أو جل المقلدين بل و حتى الدعاة متوهمين أن بضاعتهم كلها سليمة وهي في غالبيتها سقيمة، وهذا ما يجعل الحاجة ماسة إلى العودة للمنبع الأصلي (وهو القرآن الكريم) لكي يتبين الحق من الباطل.
سورة النساء
خلاصة الخلاصة:
وفي الختام نؤكد، أن جل الكلام الموروث المتعلق بالجزاء، والذي ألبسه السلف لباس اليقين بناء على روايات منسوبة للنبي ﷺ والتي تعتبر ظنية في أفضل الأحوال وبالتالي لا يصح الاستدلال بها في مسائل العقيدة، وما نحن بصدد الكلام فيه هو من صميم العقيدة.
وبناء على ذلك فأي اعتقاد مبني على هاته الروايات، وخصوصا ما جاء فيها أن صيام أيام معينة من السنة، سواء في شعبان أو شوال أو كالأيام البيض، أو يوم عرفات وعاشوراء والأيام العشر من ذي الحجة، والتي قال معظم السلف أنها كفارة للسَّنة التي قبلها أو بعدها أو كليهما، أو تلك التي تؤكد أن الحج والعمرة يمحوان كل ما ارتكب المسلم من ذنوب وسيئات، وما إلى ذلك، فهذا كله كلام باطل لا أساس له ولا أصل له في القرآن الكريم، وبالتالي فهو لا يؤدي إلا إلى كسل ديني وإلى تواكل ممقوت، وبالتالي يزيد الطين بلة، ويستمر المسلم في ارتكاب المعاصي ظنا منه أنها ستُكفر بمجرد عمرة أو صيام ليالي محددة، وهذا قمة الكفر بكلام الله الذي لا يقر بذلك.
لا يُكفِّر السيئات إلا العمل الصالح، أما النوافل أو زيادة الأعمال التعبدية والأذكار ربما هي فقط تساعد على مغفرة الذنوب، وفيها يترجى العبد من ربه العفو والسماح.
فحذار أن نتبع كلام الظن، وكلام البشر، ونترك كلام الله البين الواضح، الذي يعطينا الطريقة والمنهج لكي نفوز بالنعيم، وننجو من عذاب الآخرة.
فمتى ترجع الأمة إلى رشدها وتدرك ثمرة اتباع كلام الخالق، والتوقف عن هجر القرآن الكريم الذي لا هدى إلا هداه؟
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))