كتكملة لما فصلنا سابقا بخصوص السنة النبوية والفرق بينها وبين الرواية والحديث، نعرض فيما يلي طريقة أخرى في فهم السنة وكيف يمكن أن نجدد فهمنا لها من خلال تقديم مقارنات ومقاربات وبعض الأمثلة من الواقع.
السؤال المطروح هو كيف نفهم سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ؟
هذه بعض المفاهيم الأساسية المتعلقة بالسنة :
- السنة منهج تطبيقي، وليس كلاما مدونا.
- السنة، منهج تطبيق أحكام الله دون الخروج عن حدوده ومراعاة التيسير في ذلك وفق الظروف الزمكانية ووفقا لثقافة المجتمع.
- السنة تفاعل للإسلام مع المرحلة التاريخية الني يتواجد بها.
- السنة منهج هدفه تعليم الناس طريقة الاجتهاد في تطبيق أحكام الله وقوننة الحلال والامتناع عن الاقتراب من حدود الله.
- علاقة القرآن مع السنة النبوية هي نفس العلاقة بين العلم والتقنية.
- كذلك الفرق بين الرسالة والنبوة هو نفس الفرق بين العلم والتقنية.
- النبوة هي الحكمة التي آتاها الله لأنبيائه الذين اصطفاهم، وهاته الحكمة علمها الأنبياء بدورهم للناس.
- سنة الرسول هي الشعائر التعبدية التي وصلتنا عن طريق التواتر الفعلي كالصلاة والزكاة والصيام والحج، لقوله صلى الله عليه وسلم : "خذوا عنى مناسككم" ، وقوله : "صلوا كما رأيتموني أصلي". والعمل بها ملزم واتباعها واجب، لأننا أولا لا نملك البديل، ثم لأن الاختلاف في الشعائر هو من باب خالف تعرف. وفوق كل ذلك، فتواترها الفعلي قضى على إمكانية وجود خلاف عليها منذ تشريعها وإلى حد الآن.
- السنة النبوية هي الاجتهاد الأول في تطبيق الرسالة الإلهية (ليس الوحيد ولا الأخير) على الواقع المعاش، وهي ظرفية ويمكن أن تصلح لزمان آخر إن تكرر نفس الظرف ونفس السياق. وأما ما صح مما وصلنا من كتب الحديث، فيجوز العمل به مالم يتعارض مع القرآن ومع العلم والمنطق والعقل السوي.
باختصار، السنة تمثل الجانب النسبي الإنساني من الإسلام، في حين يمثل القرآن الجانب المطلق الإلهي.
لا بأس أ ن نذكر بأمر مهم بخصوص طاعة الرسول (ص) والتي تحكم اتباعنا للسنة وهو :
- طاعة الرسول نوعان :
* طاعة متصلة : (وأطيعوا الله والرسول...) بمعنى الطاعة في الأحكام والعبادات والحدود والحلال والحرام...
* طاعة منفصلة : (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وهي طاعة للرسول في حياته، وهي مرتبطة بولاية الأمر وتنتهي بوفاته. فهي إذا طاعة مرحلية ظرفية.
فالطاعة تكون للحي، والتأسي يكون بالميت، ففي حياته كان المسلمون يطيعون النبي (ص)، وبعد موته أصبحنا نتأسى به ونقتدي به، فالله تعالى يقول :
فيما يلي سوف نقدم بعض الأمثلة لسنن النبي (ص)، لكي نفهم من خلالها روح السنة وكيف يجب أن نفقه المدلول الحقيقي لاتباع النبي فيما أرشد به أمته :
سنة اللحية واللباس :
سنة المظهر بصفة عامة، هو أن النبي (ص) كان يلبس ما تلبسه العرب آنذاك، ويطلق لحيته على ما كان يفعله قومه آنذاك، وهذه عادات كان النبي يتبعها، وذاك من صميم التواضع وعدم التميز، فقد كان الأغراب حين قدومهم إلى الرسول يسألون من منكم محمد؟ وهذا درس في الشعور القومي والاندماج الحسن وسط المجتمع، فاللحية على عكس ما يعتقد الكثير من المتدينين، لا علاقة لها بالدين ولا بسنة أحق بالاتباع، ولا أفضلية لمسلم بلحية على آخر بدونها، فمتى بُني الدين على الأشكال والمظاهر ؟ و قد روي في الأثر عن النبي (ص) قوله :
"إن الله لا ينظر الى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم"
سنة السواك :
يجب أن نفهمها على أنها درس كبير للاعتناء بنظافة الأسنان، وأن السواك مجرد وسيلة متاحة في ذلك العصر، ففي وقتنا الحاضر فمعجون الأسنان أو أي منتوج آخر يفي بالغرض ومن استحب السواك فله ذلك، وليس السنة هو التسوك به عينا، بل الاقتداء بالمبدأ هو الهدف.
سنة أكل التمر وشرب الحليب :
من الطبيعي أن يكون طعام النبي الرئيسي من مزروعات أرض الصحراء وما يتم إنتاجه بكثرة وهو التمر، وهذا بغض النظر عن كونه غذاء جيدا لصحة الإنسان، والحليب كذلك كمشروب من نتاج الإبل والضأن كان هو المتاح والموجود بكثرة في بيئة صحراوية، فالاقتداء إذاً بالنبي في ذلك هو الأكل مما ينتجه البلد أو تنتجه القبيلة، وهذا سلوك وطني لا يتقيد بعين التمر أو الحليب، بل بكل ما تنتجه الدولة .
تقريب مفهوم السنة من الواقع:
ارتأينا إدراج هذه المقاربة لتقريب المسلم ممن لا يريد الخوض في متاهات اللغة والمعاني والتفسيرات والتأويلات على اختلافها، فالعقول ليس لها نفس المفاتيح، وسوف نضرب مثلا من الواقع نبين من خلاله أن "السنة" هي تطبيق كلام الله على الواقع، وأن الأصل هو النص القرآني، والحاكمية للقرآن، وهذه ليست دعوة لنبذ ما وصلنا من كتب الحديث، ولكن، وكما نكرر كل مرة، تذكير بوضع السنة في الإطار المناسب، و عدم تقديس الروايات لأنها ظنية ولا تفيد اليقين خصوصا في أمور العقيدة والأحكام.
مبدئيا كلنا نتفق أن الرسول (ص) هو مبلغ لرسالة ربه التي تتمثل في كتابه الحكيم الذي هو القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالى:
ولتوضيح ذلك أكثر، سوف نأخذ مهمة التدريس كتقريب للمسألة من حيث علاقة الأستاذ مع طلبته، ولكنه ليس تشبيها، لأن دور الرسول أكبر من ذلك.
- فالأستاذ من خلال تدريسه للطلبة هو المسؤول عن تبليغ رسالة التدريس المتمثلة في تلقين المتمدرسين منهجا لفهم المقرر وما جاء فيه من دروس ومفاهيم، فهو مجرد موصل لدروس المقرر بدون زيادة أو نقصان، ودوره هو الاجتهاد في إيصال المعلومات في الزمن المحدد وبالشكل السليم وبالطريقة المثلى حسب مستوى الطلبة الذي يختلف من واحد لآخر.
كذلك الرسول فهو المسؤول عن إيصال الرسالة أي كلام الله المنزل، والاجتهاد في تفعيل الآيات على أرض الواقع بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالاعتماد على منهج حكيم يلقن به أحكام الله ويعرف به الحلال والحرام.
- وأما الطالب فيجب عليه اتباع محتوى المقرر والاستعانة بالمدرس لفهمه بشكل أحسن، فدوره إذاً الانتباه والاستماع إلى المدرس، ودرجة فهمه للمقرر تبقى مرتبطة بمستوى الذكاء لديه، وكذلك بالتزامه بما علمه الأستاذ وبمنهجيته في التدريس.
وكذلك المسلم فدوره اتباع الرسالة والاجتهاد في فهمها والاستعانة بتعاليم الرسول وسنته من أجل استيعاب أحسن وإدراك أفضل.
- من جهة أخرى، فالأستاذ لا يجب أن يخرج عن المقرر في تدريسه لمحتواه، ولا يجب أن يدرس شيئا خارج المقرر المفروض عليه من طرف واضعيه، وإذا فعل استثناء أو لغرض معين فلا حرج في ذلك، ولكن الطلبة غير مطالبين بتلقي ذلك لأنه غير مفروض ولا يدخل في المقرر.
كذلك الرسول (ص) لا يجب عليه أن يخرج عن الوحي أي القرآن الكريم وهذا ما أكدته الآية التالية:
ولكنه بإمكانه الاجتهاد في توعية الناس وبالفصل بينهم في أمر لم يوح إليه بخصوصه، ولسنا مطالبين بتطبيقه لأنه ظرفي ولا يدخل ضمن الرسالة.
فكل ما وصلنا من الأثر قابل للتطبيق فلا بأس به بل ومستحب طالما لا يتعارض مع روح القرآن ومع أهداف الرسالة. لأن الدور الرئيسي للرسول (ص) هو تبليغ الرسالة وما نزل إلى الناس من طرف الخالق، وهذا ما جاء في آيات عديدة ولعل أبرزها الآية التالية:
والتي فسرناها في مقال سابق.
في الأخير هناك الطلبة الذين يتلقون دروس المقرر فهم بحكم تفاوتهم المعرفي وقدراتهم العقلية ودرجة حماسهم ورغبتهم في التحصيل الدراسي، ينقسمون إلى ثلاث أقسام:
* الطلبة ذوو الكفاءة المتوسطة والذين لا يمكنهم أن يفهموا المقرر بدون الاستعانة بالأستاذ ولا بدون أمثلة وشرح مستفيض.
* الطلبة المتفوقون الذين يفهمون الدرس من خلال مراجعتهم وتحصيلهم دروس المقرر واجتهادهم في ذلك، وحتى بدون شرح الأستاذ، ومع ذلك فهذا الأخير يزيدهم يقينا على يقينهم.
* الطلبة الكسالى الذين لا يفهمون لا المقرر ولا شرح الأستاذ، لأسباب عدة أبرزها عدم رغبتهم في الدراسة.
كذلك فنحن في فهمنا للإسلام متفاوتون:
ففينا من يجتهد في تدبر القرآن لأن التدبر فريضة مصداقا لقوله تعالى :
ثم يدرس ويتدارس للوصول إلى ما يروي عطشه المعرفي، مستعينا بما وصله من سنة نبيه وما يقرأ من اجتهادات الفقهاء ومن سبقوه مع استخدام عقله في قبول أو رفض ذلك وأخذ ما ينفعه وترك مالا ينفعه.
وفينا من لا يستطيع تدبر القرآن لوحده فيسأل فقيها أو يتبع مذهبا ومن هؤلاء من يستخدم عقله ومنهم من لا يستخدمه وفي كل مرة يحتاج إلى من يبين له ويوضح له أمور الشرع وغيرها.
وهناك عامة الناس الذين لا يحاولون مجرد المحاولة لتدبر كلام الله ولا يفهمون إلا ما فهم الآخرون، فهم مجرد تابعين ومقلدين، وتراهم في كل واد يهيمون، ومنهم من لا يكترث أصلا بما يقوله الشرع أوما يفرضه الدين، فهم مسلمون بالإسم فقط.
في النهاية، نريد أن نذكر بأمر غاية في الأهمية، وهو الفيصل في القضية:
بعد انتهاء العام الدراسي وعند الامتحان، فيم يُمتحن الطلبة ؟؟ هل في المقرر أم في كلام الأستاذ ؟؟
كذلك يوم الحساب، فيم سنُمتحن وفيم سنُسأل ؟ هل في كلام الله المتمثل في القرآن الكريم ؟ أم فيما وصلنا من كتب الحديث ؟
على هذا الأساس يجب إرجاع الحاكمية للتنزيل الحكيم، لأنه هو المهيمن وهو الفيصل وهو الكلام الفصل لكي لا نكون من الذين قال فيهم تعالى على لسان نبينا الكريم :