طبقا لمبدأ: إذا تغير المبنى تغير المعنى، نقوم بدراسة الفرق بين مصطلحين قرآنيين يساء فهمها عند المسلمين عامة، إما بعدم التفرقة بين معانيهما أو بقلبها رأسا عن عقب.
هذان المصطلحان هما الجهل والجهالة.
وسوف نحاول استنباط المفهوم والدلالة، بحول الله، حصريا من دراستنا لكيفية استعمال التنزيل الحكيم لهذين المصطلحين.
ومن جهة أخرى، سوف نبين الخلط الذي وقع فيه بعض من تعرض لهذه المقارنة بعيدا عن السياق القرآني، فبعضهم ابتعد عن المدلول، والبعض الآخر قلب المفاهيم فوصل إلى نتيجة عكسية.
وسندرك لاحقا أن قلب المفاهيم وعدم إصابة الهدف، سيدخلنا في إشكالات عقائدية تخص صلب ديننا الحنيف، فالمسألة ليست لغوية أو لسانية فحسب، بل لها علاقة بمفاهيم دينية بنيوية.
تعالوا نستعرض ما أتى به الذكر الحكيم بخصوص الجهل والجهالة:
وردت كلمة الجهالة في القرآن الكريم أربع مرات:
الآيات الثلاث الأولى تخص مفهوم التوبة، فإذا أسأنا فهم معنى الجهالة، فنحن بالتالي أسأنا فهم أحد شروط التوبة.
يقول تعالى:
﴿119﴾ سورة النحل
تكرر نفس اللفظ (الجهالة) في ثلاث آيات، وجاء فيها مرتبطا حصريا بالتوبة، وبالتالي يبقى أساس التوبة منبنيا على فهم لفظ الجهالة.
وأما الآية الأخيرة فتخص قضية التحقق من النبأ المنقول قبل الحكم أو ردة الفعل.
﴿6﴾ سورة الحجرات
إذا أردنا أن نفسر الآية على ظاهرها، فمعنى الآية كالتالي:
إذاً يجب أن يكون فهم مصطلح «الجهالة» صالحا للتطبيق في كل الآيات، وأن تكون دلالة الآيات الثلاث الخاصة بالتوبة، متناسقة مع دلالة الآية الأخيرة.
وكما قال الجرجاني في قاعدته المشهورة : «الألفاظ خدم المعاني»، فالأولى الاهتمام بالسياق القرآني لفهم اللفظ قبل تكوين مفهوم ثابت له.
من سياق الآية الآخيرة، «... إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ ...»
يتبين بوضوح أن الجهالة هي حالة يكون فيها الشخص غير واع بما يعمل وليست له المعطيات الكافية لكي يتصرف بطريقة صحيحة فيسقط في الخطيئة بدون أن يدري.
فإذا أخذنا الآية الأخيرة، فقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بتبين الحق والتثبت قبل إصدار الحكم أو ردة الفعل تجاه ما تلقوه من أنباء، واعتبر عدم التبين تصرفا بجهالة، ومن السياق نفهم أن الجهالة هنا هي عدم معرفة الحقيقة والتصرف على أساس ذلك.
وكذلك نفهم من السياق، أن الجهالة في حد ذاتها ليست معصية، ولهذا لم يأت الوعيد بشأنها، ولكن فقط جاء التنبيه من لدنه سبحانه وتعالى للمؤمنين إن هم تصرفوا بجهالة، إذ ذاك سيندمون نتيجة تسرعهم وعدم تبين الحقيقة قبل الإقدام على أي تصرف، والذي بالإمكان أن يتسبب في الأذى لأشخاص أو لقوم ظلما وعدوانا، وإذ ذاك يصبحون من العاصين.
ونفس الأمر ينطبق على آيات التوبة، وما سنذكره الآن يُعد من المسائل الخطيرة التي لا يلتفت إليها المسلمون عامة، ولا يركز عليها حتى الفقهاء إما جاهلين أو متجاهلين.
فالتوبة لا تجوز ولا تُقبل إلى حين تكون الأعمال السيئة عن جهالة.
وتم تكرار اللفظ ثلاث مرات للتأكيد على أن التوبة تكون للذين يعملون السوء بجهالة، أي للذين لا يكونون على وعي بأن عملهم سيء وفيه معصية لله عز وجل، ومن هنا ندرك أهمية معرفة مصطلح الجهالة، لأن فهمها يتوقف عليه قبول التوبة من عدمه، فالله أكد لمرات عديدة، أن التوبة تكون لمن لا يتعمد الإساءة أو القيام بالعمل السيء، فمن يقوم بذلك عمدا ويكرر وهو مستيقن أن ذلك معصية لله عز وجل، فتوبته إذ ذاك، لن أقول غير مقبولة، ولكن تبقى مرجوة بأمر الله، وبيد الله وبفضل منه ورحمة.
وربما كان هذا ترهيبا في عدم الإصرار على العمل السيء والاستمرار فيه، لأن فيه تحدي ومكابرة لله عز وجل.
فمن غير المعقول أن تُقبل التوبة من عاصٍ يقترف ما شاء من المعاصي والسيئات في حق الناس عمدا ثم يُسوِّفُ توبته إلى أجل غير مسمى، ويطمع في أن يتوب الله عنه !!!
وقد ألحق الله عز وجل هذه الآية بالآية التي أتت بعدها، والتي تنفي قبول التوبة عمن يؤجلها إلى أن يحضره الموت، فقال تعالى :
هنا لم يتكلم سبحانه وتعالى عن التوبة بالنسبة للقتل العمد، في حين الآية التي قبلها والتي تخص القتل الخطأ، يقبل الله التوبة بتأدية الكفارة (تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهل المقتول).
هذا نظام إلهي، والمسألة ليست عبثا ولا فوضى..
نأتي الآن إلى الجهل والفرق بينه وبين الجهالة.
مبدئيا، الجهل لم يرد كلفظ مستقل في القرآن الكريم، بل وردت فقط مشتقاته 20 مرة، على وزن فاعل (جاهل وجاهلون وجاهلين)، وعلى وزن فعول (جهولا)، وبصيغة الفعل (يجهلون وتجهلون) وورد كذلك لفظ «الجاهلية».
وفي هذه الآيات تم استعمال لفظ الجاهل لوصف من يعبد الأصنام :
ومن هذا الوصف الذي اختص به سبحانه وتعالى بعض الفئات من الأقوام السابقة، يمكن أن نستقي مفهوم الجهل والجاهل.
فالجهل ليس عدم معرفة الشيء كما هو شائع لغويا، بل وكما بيننا سابقا، ذاك جهالة، وإنما الجهل إعراض عن الحق بعد معرفته ومكابرة وعناد في الإصرار على الباطل رغم توفر القرائن التي تبين فساد عمل الجاهل.
فالجهل إن صح القول، هو تجاهل الحق واتباع الباطل.
وبالتالي فلا يصح أن نصف إنسانا ونقول عنه أنه جاهل فقط لأنه لا يعلم، بل لا نصفه بالجاهل إلا إذا علم الحق وأعرض عنه ولجأ إلى تشويهه، إذ ذاك هو من الجاهلين.
وهذا ما تراءى لنا بعد تدبر للآيات السابق ذكرها، وبعد اجتهاد في تتبع السياق القرآني، إيمانا منا بأن القرآن يفسر بعضه بعضا.
وبالتالي تكون خلاصة الكلام بعد تدبر مصطلح الجهل والجهالة:
الجهالة: عدم المعرفة بالشيء، وتكون عن غير عمد.
الجهل: يكون عن عمد بسبب إعراض الجاهل عن معرفة الحق والتشبث بالباطل.
والله أعلم..
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))