وكل هذه الآيات أتت للتحذير من اتباع الظن ونبذ العلم.
ففي الآية الأولى، اعتبر سبحانه وتعالى الضلال ناتج عن اتباع الظن ووصف الضالين بأنهم يخرصون.
وفي الثانية، اعتبر عز وجل ثقافة التبرير واتباع الآباء في شركهم وغيهم ناتجا عن الظن وعدم اتباع العلم، ووصفهم بأنهم يخرصون.
وفي الآية الثالثة، وصف سبحانه تعالى الشرك بالله والدعاء لغير الله على أنه اتباع للظن ووصف المشركين بأنهم يخرصون.
وفي الآية الرابعة، تكلم سبحانه وتعالى عن الذين يعبدون من دون الله، أو أولئك الذين جعلوا لله جزءا بأن قالوا إن الملائكة بنات الله، وهذا كله سببه عدم العلم بما يجب أن يُعلم، فهم بذلك يخرصون.
فالخرص كما قلنا هو التقدير بالظن، فالذي يخرُص فهو يرمي بكلام يُقدره بناء على ظن.
وإن صح التعبير يمكن أن نطلق على الخرص مصطلح المقامرة الفكرية.
ولا يجب أن نهمل ولا أن ننكر حجم العواقب الخطيرة التي يمكن أن نجنيها من الأفكار المبنية على الظن وبالتالي القرارات التي تنتج عنها !!
وأعتقد أنه من أسباب تحريم الميسر أي القمار، كونه مبني على الحدس والحظ.
فالمقامر بالمال يرمي ماله وينتظر أن يساعفه الحظ في الربح، متكأً على حدسه، وهو لا يعلم أنه يخاطر بماله الذي ائتمنه الله عليه، وأنه معرض للإفلاس.
كذلك الذين يقامرون بإطلاق الكلام على عواهنه دون تثبت ودون تيقن ودون التماس الأدلة فهم يخرصون.
والذين يجعلون كل كلامهم وخطاباتهم وأقوالهم مبنية على تصورات أحادية شاذة وليس على علم حقيقي، فهم بذلك يخرصون.
والذين يجعلون اعتقاداتهم وسلوكياتهم مبنية على خرافات أو على عادات أو على تقليد للآباء هم كذلك يخرصون.
وأخطرهم على الأمة أولئك الذين تكون تصرفاتهم وقراراتهم الطائشة مبنية على الظن وعلى آراء أصحاب المشورة الغير المؤهلين علميا لإسداء النصيحة وللتوجيه السليم.
وهذا ما يمكن أن يهلك الأمة والمجتمع، ويكون تأثير هؤلاء ملموسا على سير المجتمعات ومصيرهم.
وأما الصنف الذي يودي بصاحبه إلى الجحيم، لأنه زاغ عن الصراط المستقيم، فقد اتبع الظن وترك العلم، ورأس العلم أن تعرف الله الخالق وتعترف بنعمته وتؤمن به.
وهل هناك أخطر من أن تجعل عقيدتك في الحياة مبنية على التقدير بالظن ؟؟؟
وأن تترك مصيرك الأخروي مرتبطا بأفكار وهمية مبنية على الباطل، بدل أن يكون قائما على الحق، والحق لا يُعرف إلا بالعلم وليس بالظن.
ولعل هذا الصنف هو الذي أسماهم سبحانه وتعالى ب:«الخراصين».
وهنا ننتقل إلى الآية الكريمة التي تحدثت عن هؤلاء نوعية من البشر، التي قال فيه تعالى :
قُتِلَ ٱلْخَرَّٰصُونَ﴿10﴾
فالخرَّاص، هي صيغة مبالغة لمن يخرُص، وهي على وزن فعَّال.
ولكي نستجلي من هم الذين وصفهم الله بالخراصين، وجب أن نرجع إلى الآيتين السابقتين، ثم الآيات اللاحقة، لكي نفهم السياق الذي أتىى فيه ذكر «الخراصين».
فقبل آية «قُتِلَ ٱلْخَرَّٰصُونَ» قال تعالى :
أَقسَم الله تعالى في بداية سورة الذاريات مخاطبا أهل الشرك والكفر من قوم النبي ﷺ على أنهم في قول مختلف، كل يقول برأيه، فقد وصفوا القرآن بالسحر والشعر ووصفوا الرسول ﷺ بالساحر والشاعر والمجنون فهم يتناقضون مع أنفسهم أولا قبل أن يتناقضوا مع العقل والمنطق والعلم.
وهذه الآية صالحة حتى لمخاطبة الناس إلى يوم الدين، فلحد الآن فالناس في قول مختلف وهذا من السنة الإلهية.
ثم أتبع الآية بقوله تعالى أن غير هؤلاء الذين هم مختلفون ومتناقضون، سيُؤفَك عنه من أُفك، أي سيُصرف عن هذا القول من سيعرف غير ذلك، (أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا).
فبعد أن تكلم سبحانه عن واقع فيه أقوال مختلفة فهناك من سيقول باطلا وهناك من سَيُصرف عنه بالتشبث بالحق، أتت الآية القرآنية الفاصلة التي تحدد موقف الدين من هؤلاء الصنف من الناس فقال تعالى: « قُتِلَ ٱلْخَرَّٰصُونَ»
من هم الخراصون ؟؟ في الآية الموالية : «ٱلَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ»
والغمرة هي الغفلة وهي الجهالة وهي الضلالة....
يقول تعالى : «فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ»
فالخراصون هم الذين وسط كل الأقاويل المختلفة يتبعون الكلام المرسل وكلام الباطل فهم لا يؤمنون بالله تعالى لأنهم لا يستشعرون وجوده، ويتبعون كلام الذين يقولون بأنه غير موجود أو أن وجوده يستدعي رؤيته أو..... فهذا خرص أي تبني معتقدك على وهم وظن وليس على علم.
فالعلم يقتضي أن تعرف قواعد التعرف على الأشياء، فهناك ما يمكن رؤيته وهناك من يمكن لمسه وهناك من لا يمكن معرفته سوى عن طريق رؤية تأثيره وانعكاسه.
والخراصون هم الذين يكذبون بآيات الله القرآنية، الكونية أو التكوينية.
هم الذين يشككون في وجوده بناء على تخيلات وأوهام فكرية.
هم الذين يكفرون بيوم الدين، ويقولون أنه ليس هناك لا بعث ولا جزاء، فقط لأنهم يخرصون.
أنظروا الآية التي أتت من بعد : «يَسْـَٔلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ﴿12﴾»
ثم توعد الله تعالى هؤلاء فقال :
طبعا هؤلاء الخراصون في ضلال ويضلون معهم غيرهم، فهم يفتنونهم ويصرفونهم عن الحق، وبالتالي فسوف يلقون نتيجة ما عملوا ويُفتنون هم أيضا في جهنم.
الذي يخرص هو يسهو في أفكاره البالية ويتقوقع حولها، ويتبع الظن وليس له علم يبني عليه أفكاره ومعتقداته، وعندما يصل إلى حالة الشك في كل شيء، في وجود الله واليوم الآخر عندئذ يكون من الخراصين، وإذ ذاك قال تعالى «قُتل الخراصون».
فالمعلوم أن من يكذب بيوم الدين هو من المجرمين، فتوعد الله للخراصين بالقتل وبالعذاب يوم القيامة، هو بسبب التكذيب بيوم الدين.
وأما الخرص في حد ذاته فهو لكونه تخمينا فهو لا يغني من الحق شيئا وصاحبه يبقى في ضلال وتيه طالما جانب العلم والعقل.
أما إذا اُستُعمِل هذا الخرص أي التقدير بالظن والحدس في تسبب الأذى للغير أو أدى إلىى فساد أو شر أو ما شابه ذلك، فهو يُسمى كذباً وإفكاً، ولذلك جاء الكذب كأحد معاني الخرص.
وهؤلاء الذين يكذبون ويأفٍكون بالتحايل على الناس بنشر أمور خطيرة فقط باتباع الظن وبدون بينة ولا علم، ويمكن أن يشككوا الناس في عقيدتهم وفي دينهم وبالتالي في التسبب لهم بالإلحاد، فهم يدخلون في زمرة الخراصين.
فليحذر كل الذين ينبذون العلم ويتشبثون بالظن سواء في أفكارهم أو تصوراتهم ثم ينعكس ذلك على قراراتهم وسلوكياتهم، فأولئك سيكونون من الذين يخرصون، وبالتالي في زمرة الخراصين.
والله تعالى يقول : قُتِلَ ٱلْخَرَّٰصُونَ
هذا والله أعلم..
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))