هي آيات قرآنية لم تلق ذلك الاهتمام الكافي ولا التدبر الوافي من طرف السلف ولا من الخلف بحسب اطلاعي، وحتى لو وجد فعلى الأقل يظل المفهوم الشائع عند جمهور المسلمين سائدا إلى يومنا هذا.
الآية الكريمة : « لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلْمُطَهَّرُونَ » تعني وكما جاء في أغلب التفاسير الموروثة، أنه لا يجوز لمس المصحف إلا عن طهارة، واختلفوا في الطهارة هل المقصود بها الطهارة الكبرى أي الجنابة، أو الحيض بالنسبة للمرأة، أم الطهارة الصغرى والتي تستدعي فقط الوضوء، البعض الآخر من المفسرين، قالوا أن المقصود ب"المطهرون" هم الملائكة.
وقد كان الاختلاف أيضا في هل الطهارة من الحدث أم من الكفر.
وقد تم الاعتماد بالنسبة للفريق الأول على حديث مروي في السنن، وهو ليس بحديث صحيح "سندا" روي عن النبي ﷺ أنه قال : « لا يمس القرآن إلا طاهر».
وهذا الاختلاف في التفسير، يدل على أن المفاهيم كلها اجتهادات لا تلزم إلا أصحابها، وأننا محتاجون لتدبر جديد، يمليه علينا هذا الاختلاف، وأيضا القسم الذي يسبق الآية قيد الدرس، والذي يدل على أن ما سيتم قوله من لدنه عز وجل أمر عظيم لا يقتصر على لمس المصحف أو شيء من هذا القبيل.
كان لا بد لهذه المقدمة لكي نعلم المعروف والمتداول لدى عامة المسلمين بخصوص هذه الآية والذي لا يرقى إلى معرفة يقينية أو على الأقل لا ترتكز على أسس رصينة، وهذا ما دفعنا إلى تدبر الآية بشكل معمق وبحكمة استطعنا بحول الله أن نصل إلى نتيجة أعتبرها أكثر قبولا بالرجوع إلى المنطق والعقل وقبلهما إلى المنظومة القرآنية، وهو استنباط يبقى اجتهادا يمكن أن أكون به مصيبا أو مخطئا، ولي الاجر في ذلك إن شاء الله تعالى.
مبدئيا لنرَ هل الرأي الفقهي السائد المعتمد على التفسير السابق صائب أم يستدعي وقفة أخرى، وأن الأمر ليس ترفا فكريا، بل ضرورة سوف نلمس حقيقتها في نهاية التحليل.
للتذكير،
أولا لكل آية قرآنية مفتاح أو مفاتح تمكن الدخول إلى مغزاها، وبالتالي استعمالها لاستجلاء المعنى المراد، من غير تأويل، فالتأويل لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى في قوله :
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ
في الآية قيد الدراسة، هناك مصطلحان يعتبران مفتاحي تفسيرها، مصطلح "يمسه" ومصطلح "المطهرون".
لقد وقع خلط بين فعل "مس" وفعل "لمس" من جهة، وبين "مطهرون" و"طاهرون" من جهة أخرى.
فطبقا للقاعدة اللغوية: "إذا اختلف المبنى اختلف المعنى"، هناك فرق بين كل مصطلحين على حدة.
فبخصوص فعل "لمس" فقد ورد في قوله تعالى :
وهو مرادف لفعل لامس الذي ورد في آيتين اثنتين بعبارة "لامستم النساء".
فاللمس من الحواس الخمس، وهو محاذاة الشيء بطريقة حسية.
واللمس والملامسة كلاهما شعور حسي.
فالآية قيد الدراسة، لو أتت بصيغة "لا يلمسه" عوض "لا يمسه" لكان التفسير الشائع مقبولا، أما وأنه ليس كذلك، فالأمر يستوجب تدبرا أكثر لمصطلح "مس"، ولن نجد أفضل من القرآن الكريم كمرجعية لغوية، تطبيقا لقاعدة "القرآن يفسر بعضه بعضا".
فإذا فحصنا الآيات القرآنية التي تحتوي على "مس" ، نجد أنه يأتي للتعبير، عن فعل معنوي أو حسي ومعنوي في نفس الوقت، ولكنه لا يأتي بشكل حسي فقط.
تأثير معنوي :
وأما التأثير الحسي فلم يعبر عنه سبحانه إلا بفعل لمس أو لامس.
من هنا نستنتج أن "المس" أوسع معنى من "اللمس"، وهو معنوي أكثر منه حسي.
ولا بأس هنا أن نفتح قوسين، ونذكر بأن آية "إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا۟ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰٓئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ" لا تعني إصابة الممسوس بالصرع كما ادعى بعض المفسرون، لعدة أسباب، من بينها أن الشيطان ليس له على الإنسان سلطان خصوصا أن الآية تتكلم على المتقين، ثم أن الصرع مرض يصيب حتى الأطفال، وفوق كل ذلك أمن المعقول أن يصيب الشيطان الإنسان بالصرع ؟ ولو كان ذلك لأصاب الناس أجمعين !!!
فالشيطان لا يملك إلا الوسوسة ولا شيء غير الوسوسة.
وتأثير الشيطان يصبح أكبر كلما ضعف الإنسان إيمانيا، وبالتالي يمكن أن يتحول إلى ما سماه سبحانه وتعالى بالتخبط، في آية الربا:
والتخبط لغة، نقول تخبط في مشاكل عديدة، أي وقع فيها إلى درجة صعوبة التخلص منها.
فتخبط الشيطان للإنسان هو حينما يغويه حتى ينساق له ويصبح عبدا له.
فآكل الربا لا يقوم إلا وهو عبد للشيطان ومنساق له يطبق كل ما يأمره به.
ولا علاقة هنا للتخبط بالصرع كما قال بعض المفسرين بأن آكل الربا سيقوم يوم القيامة وهو مصروع !! ولا أدري لماذا سيقوم كالمصروع وما علاقة أكل الربا بالصرع ؟؟
وتعبير شياطين الإنس ما هو إلا وصف لأولئك الذين استسلموا للشيطان بأعمالهم السيئة، وارتكابهم المحرمات وأصبحوا من الغاوين، وبالتالي يصبح للشيطان عليهم سلطان، كما تترجم لذلك الآية الكريمة:
فالمس الشيطاني، والذي بالمناسبة لا علاقة له بما يعتقده العامة من الناس بل حتى جل المفسرين من أن الأمر يخص تلبس الجن أو نحو ذلك، هو يرتبط بالتحكم في النفس الإنسانية بعد إغواء سابق وتسخيرها لخدمة الشيطان وأهدافه.
إنه دخول إلى أغوار النفس الإنسانية من أجل استعباد صاحبها والتأثير عليه وأمره بالفحشاء والمنكر وكل أنواع الرذائل، ولذلك يقول تعالى في كتابه العزيز :
من هؤلاء المأمورون؟ وكيف سيأمرهم الشيطان؟
من هم؟ طبعا صغار النفوس والذين اختاروا بإرادتهم أن يتبعوا الشيطان ويستسلموا له.
كيف سيأمرهم؟ سيتملكهم ويتحكم فيهم ويسخرهم كأعوان له، ليصبحوا بذلك شياطين الإنس، فيصبح كبيرهم أي إبليس هو الآمر الناهي.
نغلق القوسين، ونعود إلى موضوعنا الرئيسي، ونستأنف ما كنا بصدد قوله حول مس الكتاب.
كزيادة في التأكيد على ما قلنا حول المس، يجب أن نستبعد كون المس هنا بمعنى "لمس"، لأن الله سبحانه وتعالى في الآيات قيد الدرس :
لم يذكر شيئا ماديا، فلو ذكر كلمة "مصحف" مثلا، أو على الأقل أحد مشتقاته ككلمة: "صحف" كما جاء في آيات عديدة مثل آية : صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ أو آية: رَسُولٞ مِّنَ اَ۬للَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاٗ مُّطَهَّرَةٗ ، لكان الأمر مختلفا، ولكنه ذكر كلمة "كتاب"، أي يتكلم هنا عن محتواه وليس الأوراق الحاملة له، بالإضافة إلى أن المصحف يومئذ لم يكن موجودا أصلا !!
إذن يتضح جليا أن المس الذي نحاول استنباط مفهومه، هو تملك الشيء من جميع جوانبه، أو الإحاطة به.
فالمس أشمل من اللمس، ولا يمكن فهم معنى "لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلْمُطَهَّرُونَ" إلا من خلال هذا الطرح.
أي أن المعنى الأقرب للتعبير، هو "لا يملك مفاتحه ولا يدخل إلى أغواره لاستكناه أسراره ولا يقترب من حقيقته، إلا المطهرون"
وللتأكيد أكثر فأكثر على صحة ما وصلنا إليه، سأستدل بقرينة هي دليل آخر على أن الاستنباط كان في الطريق الصحيح، وهي تتعلق بذكر كلمة "مكنون" التي وردت كصفة للكتاب في الآيات قيد الدرس: "فِى كِتَٰبٍ مَّكْنُونٍ"، والتي لم تأت اعتباطا، فالقرآن كما نعلم أو كما يعلم خاصة المتدبرون له، لا يضع الكلمات وخصوصا الصفات بشكل عشوائي، فلكل مقام مقال.
فعندما يصف الله ذاته مثلا بقول السميع أو البصير أو العليم أو الخبير، فذلك لكون سياق الآية يحتم ذكر الصفة المناسبة، فكذلك في كل موضع يتم تطبيق نفس القاعدة، فصفة "مكنون" لها مدلول حسب السياق، والمعنى اللغوي لمكنون، هو المستور من الأعين والمحفوظ والموقر، وكما أحب أن أفعل دائما، آتي بالشرح القرآني والقاعدة القرآنية "القرآن يفسر بعضه بعضا"، فإذا استحضرنا بعض الآيات التي وردت فيها كلمة "مكنون" مثل آية: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ أو آية: كَأَمْثَٰلِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ ، نجد أن المعنى المراد بالتدقيق هو "مستور"، فالبيضة تكون مستورة بالقشرة أو بريش الطير الذي يحتضنه، واللؤلؤة كذلك تكون مستورة ومحفوظة داخل المحارة.
ومكنون من فعل "كَنَّ" أي ستر واخفى، نقول في تعبيرنا اللغوي: "ما أكنه في نفسي" أي ما أخفيه في نفسي" أي ما بداخلي ولا أفصح به.
فعندما يقول الله تعالى "كتاب مكنون" معنى ذلك، أن القرآن الكريم فيه كنز أو كنوز مخفية ومستورة، بشكل مجازي طبعا، ولا يتاح معرفة كنوزه من الدلالات والمعاني والعبر والمواعظ وغيرها، إلا لنوعية محددة من المؤمنين والذين سماهم "المطَّهرون".
وسوف نبدأ باستجلاء معنى هذه الكلمة التي فسرها أغلب المفسرون بأنهم الملائكة، وفريق آخر فهم أنهم الطاهرون من الجنابة والحدث.
أولا: بالنسبة لمن فهم أنهم هم "الملائكة" أقول، أن القرآن غير موجه أساس لهم، فالملائكة يسبحون بحمد الله، ولا يعصون الله ما أمرهم، وهم غير معنيين بتدبر القرآن.
ثانيا: المطهرون لا تعني المتطهرون أو الطاهرون، ففعل اطَّهر غير فعل تطهر.
وكالعادة تعالوا نتدبر ما جاء في القرآن بخصوص الطهارة.
فمتطهر من فعل تطهر وهو يأتي بالمعنى المعروف والمتداول الذي هو الاغتسال بالماء أو التطهر بأي نوع من المطهرات البدنية من عطر وصابون وما شابه ذلك.
قوله تعالى " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " وقوله عز وجل: " إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ "
فالطهارة هنا نقيض النجاسة والجنابة وما شابه ذلك.
وأما فعل طهَّر أو مطهَّر فيأتي غالبا إن لم أقل دائما بشكل معنوي كقوله تعالى:
" وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا " و " خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا " و " ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ".
فهذه الطهارة معنوية من الحسد والغل والحقد وأمراض القلوب و..
ويمكن أن يأتي حاملا لمعنى حسي وآخر معنوي، كقوله تعالى: " وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ "
فهنا أمر الله النبي إبراهيم بتطهير الكعبة من الشرك والوثنية، وكذا من أي نجاسة ممكنة، وذلك لتجهيزها للطواف.
فالمطهرون إذن هم الذين اطهرت قلوبهم وعقولهم ونفوسهم.
أنظر قوله تعالى:
لهم فيها "أزواج مطهرة "، وأكيد أن المعنى هنا الطهرة المعنوية، أي أن أزواج المؤمنين او المؤمنات، ستكون قلوبهم طاهرة مطهرة من كل الأشياء السيئة التي تكون عادة في نفوسهم في الدنيا "إن النفس لأمارة بالسوء"، فالجنة لا مكان فيها إلا للمُطَّهِرين.
أما الآيات التي أراها الفيصل في الحسم في الاختلاف بين التطهر (الحسي المادي) والطهر (المعنوي)، هي قوله تعالى في سورة التوبة :
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا۟ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ
هنا بكل تأكيد الطهارة معنوية، فالناس تدخل المسجد للتطهر من الذنوب والمعاصي، وليس للتطهر البدني. فوصفهم سبحانه ب"المُطَّهرين"
أما قوله تعالى:
فهنا تكلم سبحانه وتعالى عن التطهر البدني التي تقوم به المرأة الحائض بعد طُهرها الطبيعي (توقف الحيض)، ثم وصفهن ب"المتطهرين".
لم يعد بعد أن نفصل أكثر في الموضوع، وكانت هذه المقارنة هي الحاسمة في قضية الطهارة.
"المطَّهرون" هم الذين تطهرت قلوبهم وعقولهم وأفئدتهم ونفوسهم من الذنوب والمعاصي والخبائث وكل أمراض القلوب.
وتكتمل بالتالي المنظومة في الآية قيد الدرس:
ويصبح المعنى اكثر وضوحا :
جوهر كتاب الله، وأغواره المعرفية، وكنوزه التي يجب استخراجها، أي مدلولات الآيات الواجب تدبرها وفهم مقاصدها، والمفاهيم التي يمكن استنباطها من محتوى القرآن الكريم، لن تكون متاحة إلا للمطهرين الذين تطهرت قلوبهم وعقولهم ونفوسهم من كل خبائث الأمور، وكذلك من كل أدران الخرافات والأفكار السلبية والمعتقدات البالية والتأثيرات المذهبية والفكر الآبائي والتبعية العمياء، ومن كل العادات السيئة.
لا يمكن لأي مسلم أن يتدبر آيات كتاب الله، وهو لاغي لعقله وقلبه، ويفكر بعقل غيره، ويقدس أفكار غيره ممن سبقوه، أفكار لا يحكمها لا عقل ولا منطق ولا هدي رباني قويم.
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))