لماذا لم يفسر الرسول ﷺ القرآن الكريم؟.
لا أدري هل تساءل أحد منكم هذا السؤال، أو على الأقل فكر في هذه القضية عند تصفحه لكتب التفسير؟؟.
هذا السؤال لا يُعد من الترف الفكري، كما أنه ليس سؤالا فلسفيا مجردا، بل له أسباب وجيهة ودوافع نبيلة، سوف نتعرف عليها في هذه الدراسة.
لقد تعهد الله بحفظ القرآن الكريم، لقوله تعالى :
وسخر له الأسباب والرجال وعلى رأسهم نبي الإسلام محمد ﷺ، الذي سهر على تدوينه مع أصحابه، وقام بتأطير العملية وبتنظيمها وتسييرها، ثم بعد ذلك قام بمراجعة ما تم تدوينه، فهو الذي أُنزلَ ونُزِّلَ عليه الوحي وهو أحفظ الحُفَّاظ.
فالحافظ لكتاب الله هو العليم الحكيم، والمنفذ لعملية الحفظ هو الرسول المصطفى ﷺ وأصحابه المرضيين.
ولكن القرآن الكريم يحتاج إلى تفسير لمعانيه، وتوضيح لمدلولات آياته المحكمات والمتشابهات وغيرها، وذلك لكي:
- تتم معرفة حدود الله، وحلاله وحرامه، ويتم تطبيق أحكام الله على أساس ذلك.
- ثم كذلك لأخذ العبر من القصص والأمثال والأحداث.
- ثم لسبر أغواره واستخراج كنوزه التي تُظهر إعجازه العلمي والمنطقي والبلاغي..
- ولكي يتم البرهنة على مصدريته الربانية، وأنه من عند الله، ويستحيل الإتيان بسورة من مثله.
وبما أن الله تعالى أمر عباده بتدبر آيات القرآن الحكيم، مصداقا لقوله عز وجل:
فهو بالتالي فريضة على المسلم، للتعرف على معاني كلام الله ثم استنباط ما يمكن استنباطه بحسب المستوى اللغوي والفكري للمتدبر.
ولكن لما كانت هذه المستويات متباينة، بل ومنعدمة لدى البعض، أُلِّفت كتب التفسير وتعددت لإعانة المتدبر لفهم معاني آيات الله، ومعرفة بعض ما ارتبط بأسباب نزولها تاريخيا، واستمرت في الصدور حتى العصر الحالي.
وتعددت نوعية التفاسير المقدمة في هذه الكتب:
- فنجد التفسير التقليدي أو ما يُسمى بالتفسير بالمأثور أو بالمنقول (الطبري وابن كثير...)، أي اعتمادا على ما ورد من روايات نبوية أو للصحابة والتابعين، وهذا النوع هو أكثر التفاسير شعبية لدى الناس بل هو المرجع بالنسبة للمذاهب السنية.
- وهناك التفسير بالرأي أو بالمعقول، أي بالاعتماد على اجتهاد المفسر في فهم كتاب الله تعالى (الفخر الرازي والشوكاني).
وهناك من مزج بين المنهجين بالمأثور وبالرأي (القرطبي، والتحرير والتنوير..)
وهناك أنواع أخرى، أو أصناف اختيرت لها مُسميات بحسب ما غلب عليها من طابع، ففيها ما يُسمى التفسير الفقهي، ثم هناك الموضوعي الذي ينطلق من موضوع أو موضوعات محددة، كما نجد التفاسير الصوفية التي ألفها المتصوفة، وتلك الفلسفية، ثم الأدبية والاجتماعية (هذا الصنف الأخير أكثر ما ألف فيه من المعاصرون)...
الذي يهمنا في قضيتنا الحالية، هو التفسير بالمأثور، وهو الذي يغلب على أكثر التفسيرات الموجودة.
لأن كل التفسيرات الأخرى هي اجتهادات لأصحابها، ولا تلزم أحدا باتباعها، عكس التفسيرات المعتمدة على النقل، فهي تعتبر مرجعية "ملزمة" أو "رسمية" إن صح التعبير، وهذا ما يقول به عامة علماء السلف.
وهذا الإلزام المتعسف، هو الذي جعلنا نطرح إشكالية "لماذا لم يفسر النبي ﷺ القرآن الكريم ؟؟"
فإذا كان يتعين علينا فهم القرآن فقط من خلال روايات النبي ﷺ، أو من خلال أقوال الصحابة الذين من المفروض أنهم سمعوا التفسير منه، أو من خلال كلام التابعين الذين سمعوا من الذين سمعوا...، فكان من الواجب أن يكون تفسير القرآن موثقا من لدنه ﷺ، أي مُدوَّنا بنفس الطريقة التي دُوِّن بها القرآن الكريم، وذلك لكي يتم تناقله بأمانة ويتم بالتالي اتباع ما فيه !!!
هذا هو المنطق، وهذا ما يقوله العقل، وإلا فسيكون الرسول ﷺ مقَصِّراً في رسالته (وحاشا أن يكون كذلك) !!!!
وبما أنه ﷺ لم يَقُم بذلك، فالاستنتاج البديهي أنه طبق فهمه للآية الكريمة التي تدعو إلى تدبر القرآن، وبالتالي ترك المجال للمسلمين للتدبر والاجتهاد في ذلك، وهذا ما وقع فعلا...
ولكن للأسف، أكثر المفسرين، وكونهم سلفيون في غالبيتهم، استسلموا لثقافة الرواية، وقيدوا أنفسهم بأقوال من سبقوهم من الصحابة والتابعين مما قد يكونوا قد فهموه من روايات للنبي ﷺ.
لقد أخضعوا القرآن الكريم، الكتاب المطلق إلى فهم نسبي، وجردوه من عالميته، بل الأهم من ذلك من صلاحيته لكل زمان ومكان، وهذا هو الفيصل في القضية.
فالروايات المعتمدة في التفاسير هي في غالبيتها أقوال للصحابة وللتابعين، والتفسير تم وفق سقفهم المعرفي الزمني والمكاني، هذا دون أن نتكلم عن غياب تفاسير لكثير من الآيات القرآنية، وهذا ما يقوي طرحنا الحالي، والذي يؤكد أن التفاسير الموجودة غير ملزمة وهي اجتهادات بشرية خاضعة للخطأ والصواب، وصوابها فيه ما هو صالح للتطبيق وفيه ما لا يصلح.
وكنا قد كررنا وما زلنا، أن السُّنة النبوية الشريفة هي الاجتهاد الأول في فهم الرسالة، أي في فهم كتاب الله، وهو تطبيق له وفق الفهم النبوي الراشد المستمد من الحكمة التي آتاها الله لنبيه الكريم.
ورغم أن النبي ﷺ هو خير من فعَّل القرآن وفهمه، فقد ترك المجال مفتوحا لفهم مرن ومتجدد وفق الأزمنة والأمكنة دون تجاوز للثوابت التي لا يمكن أن يختلف فيها المسلمون إذا خضعوا لضوابط عقلية ونقلية صريحة وقطعية.
وما فعل النبي ﷺ، هو ما أراده الله تعالى، وهو ما تنادي به الآية الكريمة التي فهمها النبي ﷺ وطبقها، فجعل التدبر ثم بعده التذكر هما غايتا إنزال كتاب الله.
اعتمادا بالأساس على ما نعلمه يقينا أن الرسول ﷺ لم يفسر القرآن، ولم يترك لنا أي كتاب للتفسير، ولا أي صحف تحمل معاني آيات الذكر الحكيم، يبقى الجواب الذي ننتظره من كل ما سبق ذكره، أي الأسباب التي جعلت النبي ﷺ لم يفسر القرآن، هي:
1. لأن الرسول ﷺ هو مبلغ للرسالة، الذي هو الوحي، وهو كتاب الله، وطيلة حياته، لم يكن يفسر القرآن، أو يشرحه، بل كان يُفَعِّله على أرض الواقع، وكان يتصرف وفق ما فهمه من تدبره للقرآن الكريم، ووفق الحكمة التي آتاه الله، والتي كان يعلمها لقومه ولصحابته، وبطريقة مباشرة كانوا يستنتجون طريقة فهمه لكتاب الله، أي المنهج النبوي في ذلك.
والآية التالية التي تختصر قولنا هذا هي :
والدليل على ذلك، هو اجتهاد الخلفاء الراشدين كعمر بن الخطاب في "تحيين" فهم كلام الله، وإخضاعه للظروف الزمكانية، والأمثلة كثيرة، وقول عمر: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" يكفينا للإيضاح.
2. لأن الرسول ﷺ يدري أن أحكام الله وحدوده وما يستوجب معرفته من الدين بالضرورة، لا يحتاج إلى تفسير، فالقرآن وضحه بما فيه الكفاية وأعاده وكرره في مواضع عدة
وما دون ذلك هي إما قصص للعبرة أو أحداث تاريخية، أو آيات متشابهات تحتاج إلى استنباط من لدن من توفر فيه العلم ومزجه بالحكمة التي فيها الخير الكثير.
3. لأن الرسول ﷺ كان يعلم ودائما وفق الحكمة التي أنعم الله عيه بها، أن القرآن لا يُفسَّر بكلمات، بل يجب أن يُفعل بطريقة عملية واقعية وعلى مكث، وأن يتشربه الناس على مهل وبطريقة إيضاحية تظهر فعلا وسلوكا.
4. لأن الرسول ﷺ، كان يعلم أنه لا يمكن حصر معاني القرآن أو الإحاطة بكل ما فيه من كنوز معرفية في زمن محدد.
5. لأن الرسول ﷺ كان يعلم أن أي كلام غير كلام الله يتم تدوينه، سيكون معرضا للتحريف، لأن الوحي هو وحده من تعهد الله بحفظه، وهذا للأسف ما وقع مع روايات الأحاديث والتي تم اختراقها والدس فيها بشكل كبير.
في الأخير، نقدم بعض الثمرات التي يُمكن أن تُستنتج من هذه الدراسة المختصرة، وهي كالتالي:
• السُّنة (أو ما يُعرف بالأحاديث النبوية) ليست مفسرة ولا شارحة للقرآن ولا مبينة له، ولو كان كذلك لكان الأولى أن يتم حفظها وتدوينها في عصر النبي ﷺ وهذا ما أثبتناه في هذه الدراسة، ولكن السُّنة هي تطبيق حي لما جاء في الرسالة التي جسدها القرآن.
• لا يمكن الإحاطة التامة بكلام الله في زمن معين ومن أي شخص معين، فالقرآن أنزله الله تعالى للتدبر في كل زمان ومكان.
• لا يمكن الاكتفاء بفهم السابقين للقرآن ونقول أننا فسرنا القرآن وأحطنا به فهما وإدراكا ثم نقفل باب التدبر، فالقرآن سيبقى خزانة لا تنفذ بالمدلولات والمفاهيم التي سوف يستفيد منها كل جيل وفي كل حقبة زمنية، وإلا نكون قد جمدناه ونزعنا عنه طابع الأزلية.
• القرآن الكريم هو عالمي يعكس عالمية رسالة الإسلام، ويجب التعامل معه على أساس ذلك.
في النهاية، لا يسعنا إلا أن نشير إلى أن ما أكدناه بخصوص تفسير القرآن، فهو ينطبق أيضا على أقوال النبي ﷺ التي لو كانت من التشريع لتم تدوينها في عهد النبي ﷺ كما فعل مع القرآن الكريم.
ولذلك، نكون قد بيننا بطريقة أخرى ما تم ذكره في مقالات أخرى وما نكرره دوما، من أن أحاديث الموروث المنسوبة إلى نبينا محمد ﷺ ما هي إلا روايات ظنية وبالتالي هي غير ملزمة ونستشهد بها للاستئناس فقط.
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))