من بين شطحات بعض المنفلتين مما يسمى بالقرآنيين، والتي تعرضنا لبعضها وما زلنا، نذكر شطحة أخرى، يقول أصحابها بعدم وجوب صلاة الجمعة كما نعرفها حاليا، أو أنها فرض كفاية وليست فرض عين، مع العلم أن آخرين ينكرونها إنكارا تاما ويعتبرونها من اختراع الأمويين ومرة يقولون العباسيين !!! ويشطحون بخيالهم ليفسروها تفسيرا باطنيا.
ولسنا نريد البدء بالحكم مسبقا على هؤلاء والذين يطبقون باستمرار مبدأ «خالف تُعرف»، ولا أن نحكم عليهم وعلى أتباعهم بالكسل الشعائري (إن صح التعبير، فهؤلاء لا يريدون لا الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا القيام بأي شعيرة تعبدية)، وهذه هي الحقيقة التي لا يحلو لهم سماعها.
ولكننا ولكيلا نُتَّهم بالشخصنة، سندرس القضية كعادتنا بطريقة عقلانية وبمنهجية علمية، ولكي نضرب عصفورين بحجر واحد، فنحن تقريبا في كل مواضيعنا نستغل الفرصة لإعطاء أدوات لكيفية التدبر القرآني وفي ذلك عبرة لأولي الألباب، وفي نفس الوقت درس لهؤلاء لكي يتعلموا طريقة التدبر العقلاني وليس التفسيرات الباطنية التي أفسدوا بها عملية التدبر القرآني وجعلوا من الجبهة الأخرى جبهة التراثيين يستهزؤون منا كونهم يجمعوننا وإياهم في نفس السَّلة كما ذكرنا سابقا.
وقبل أن نقوم بدحض هذه الشطحة، وجب أن ننبه أن بعضا من هؤلاء المنفلتين ولكي يستميلوا أتباعا كُثر، بإضفاء المصداقية على قولهم بأن صلاة الجمعة هي سُّنة وليست فريضة، استنادا إلى قول منسوب لبعض السلف من المالكية، وهو قول ضعيف شاذ لم يعتن به الجمهور والدليل هو أن كل المذاهب تقول بوجوب صلاة الجمعة.
ولا أدري كيف لمن ينكر كل الأحاديث النبوية بل وكل الموروث الإسلامي، أن يحتج بقول شاذ ويعتبره دليلا !!؟؟
وأعتقد شخصيا، وهذا اجتهادي الخاص، أن الرأي الذي اعتمد عليه هؤلاء، والذي يقول بأن الصلاة فرض كفاية وليست فرض عين، هو غالبا نُقل بالخطأ، وهو يخص صلاة الجماعة وليس صلاة الجمعة، وإذا لاحظتم فالفرق بين الكلمتين هو حرف الألف، وأعتقد أن الألف سقط سهوا وتناقله البعض على غير حقيقته. (مع الإشارة إلى أن الألف لم تكن في الماضي تُكتب عادة بل يتم تعويضها بالألف الخنجرية)
وما ذكرناه هنا، يدل على التقصير في تبليغ المعلومة الدينية من طرف الفقهاء جلهم أو بعضهم، فالذي لا يعرفه الكثير من العوام أن ما يقوله الفقهاء عادة هو نسبة إلى ما يعتقدونه وما يوافق تمذهبهم، فهم في أغلب الحالات لا يقومون بواجبهم الذي يقتضي منهم أن يذكروا جميع الآراء المذهبية.
وشخصيا، وفي كل مواضيعي المثارة لا أتردد في ذكر الاختلافات الموجودة حول قضية ما، رغم عدم اتفاقي معها، لان هذا من واجب الأمانة العلمية والأدبية.
فمثلا، والمناسبة شرط، صلاة الجماعة هي واجبة فقط عند الحنابلة (وهؤلاء لا دليل على كلامهم)، أما باقي المذاهب فهي إما سنة مؤكدة (عند المالكية والحنفية) أو فرض كفاية (عند الشافعية).
أما صلاة الجمعة، فكل المذاهب تقول بوجوبها...
قبل الشروع في تناول الموضوع أحب أن أشير أيضا إلى أن الشعائر التعبدية ومن ضمنها صلاة وخطبة الجمعة، هي ثابتة بالتواتر العملي، وهو نقل جماعة عن جماعة في إشهاد تام بدون انقطاع منذ بداية فرضها إلى الآن.
ولمن أراد المزيد من التفاصيل، فقد سبق وتناولت موضوع التواتر العملي بالتفصيل في مقال آخر تحدثت فيه عن قوة هذا النوع من التواتر وهو دليل علمي، ثم بينت علاقته بالسُّنة الفعلية للنبي ﷺ ووضعت شروطا وقواعد للتعرف على ما يدخل في زمرة التواتر العملي مما لا يدخل فيه، ويمكن الرجوع إلى هذه الحلقات بعد أن تستمعوا وتشاهدوا هذه الحلقة المهمة التي تعالج بالأساس التأصيل القرآني لهذه الشعيرة وتثبت كل ما سنه ﷺ من شعائر أصلها في القرآن، والنبي ﷺ فقط قام بتفصيل طريقة أدائها أي بتفعيلها على أرض الواقع وهذا هو دور الرسول الحقيقي، فهو المُفَعِّل للرسالة الإلهية على أرض الواقع.
في الحقيقة، كل التبريرات التي ذكرنا آنفا، والتي اعتبرها المنفلتون دلائل والتي ينكرون بها تواتر صلاة وخطبة الجمعة عبر خمسة عشر قرنا، هي فقط آراء شاذة، وهي ترهات تكفينا فيها كدليل لنقضها، الآية الكريمة (9) من سورة الجمعة والتي شرعت صلاة الجمعة، هذه الشعيرة التعبدية التي سميت بها سورة كريمة مما يدل على عظم هذه الشعيرة وأهمية هذا اليوم، وبالمناسبة سأستغل الفرصة لكي أتدارس معكم هذه الآية 9 والآية 10 من سورة الجمعة، وكما قلت سأعلم بها هؤلاء كيف يكون التدبر وكيف يكون الاستنباط العقلاني الغير المتعسف، وبذلك سنخرج بحول الله بنتائج يمكن أن يتطابق بعضها مع بعض ما وصل إليه السلف، ويمكن أن يختلف في بعض الجزئيات، المهم ألا نبحث عن الاختلاف، وألا نطبق مبدأ خالف تُعرف.
يقول تعالى في سورة الجمعة :
قبل كل شيء يجب أن نسرد بعض المعلومات التاريخية الخاصة بيوم الجمعة، وكيف يمكن أن نوفق بينها وبين آيات الله تعالى بخصوصها.
يذكر التاريخ، أن أول من أطلق يوم الجمعة هو كعب بن لؤي الجد السابع للنبي ﷺ، وكان يُسمى في الجاهلية يوم العَروبة، وقد كان هذا يوما تجتمع فيه قريش كل أسبوع.
وهذا قول تاريخي في حد ذاته مقبول، لأن الآية الكريمة السابقة تؤكد ذلك، وتوضح بالملموس أن يوم الجمعة كان معروفا من قبل نزول الآية.
ومن سياق الآية، يتبين كذلك أن صلاة الجمعة كانت تُقام قبل نزول الآية، وأنها نزلت فقط لتجعل صلاة الجمعة فريضة على المسلمين، بعد أن لوحظ أنه كان هناك إهمال في حضورها، وعدم جعلها أولوية، وهذا واضح من الآية الأخيرة 11 من سورة الجمعة والتي نبه فيها سبحانه وتعالى أولئك المتخلفين عنها.
إذن ما يمكن أن نستنبط مبدئيا من الآية 9 أنها ليست بداية تشريع صلاة الجمعة، ولكنها بداية فرضها على المسلمين.
السؤال الذي يفرض نفسه، أو الذي يمكن أن يحتج به البعض هو:
هل يصح أن يشرع النبي ﷺ شعيرة أو أي فعل من لدنه، من غير أن يوحي إليه ربنا عز وجل؟؟
خصوصا ونحن من الذين يشددون على أن الرسول ﷺ لا يشرع شيئا من لدنه !!
الجواب: أولا يجب أن نعلم أن خصوصية صلاة الجمعة هي الخطبة، وأما بدونها فهي تسمى صلاة الظهر.
إذن فهذا ليس تشريعا جديدا، فتجميع الناس في المسجد هي سنة حسنة واستمرت إلى وقتنا هذا، فمازالت تقام الدروس في المساجد بعد صلاة العصر وقبل صلاة العشاء.
ثانيا ألم يتساءل البعض كيف كان النبي ﷺ يُعلم الناس دينهم وكيف كان يبلغهم آيات القرآن وبأي طريقة؟
في مكة لم يكن هناك استقرار، وكان النبي ﷺ وأصحابه في بداية الدعوة يلتقون خفية وفي بيوت بعضهم (مثل دار الأرقم بن الأرقم)، وبعد الجهر بالدعوة، كان النبي ﷺ منهمكا في النقاش مع قومه المشركين ويعاني معهم هو وأصحابه، فلم يكن حينها الوقت مناسبا للتجمع وتدارس القرآن.
والصلاة لم تُفرض إلا في السنة الثانية قبل الهجرة، وأول مسجد بُني كان في السنة الأولى للهجرة وكان بالمدينة.
فحين هاجر النبي ﷺ والمؤمنون معه إلى المدينة كانت بداية الدولة الإسلامية، وكان لا بد من مكان وزمان لكي يقوم النبي ﷺ بعمله أو بالأحرى يكمله وذلك بأن يُتم تبليغ رسالته لأتباعه بأن يعلمهم أحكام دينهم، وليس هناك طريقة أفضل من تجميع الناس في المسجد بشكل دوري وهو ما كان.
فمن الواضح بل من المؤكد أن صلاة الجمعة كانت مبادرة من رسول الله ﷺ وكان ما يميزها هو إلقاء الخطبة، وهي مناسبة لجمع الناس ودعوتهم إلى الخير ونصحهم وإرشادهم وربما كانت الوسيلة الأهم في تبليغ آيات القرآن إلى الناس.
وهنا يجب أن أنبه إلى أمر شاع بين المسلمين وكان سببه الموروث والتاريخ الذي كرس في عقول الناس أن النبي ﷺ كان يجتمع فقط مع أصحابه ويعلمهم الكتاب والحكمة، وهذا خطأ، فالرسول ﷺ بُعث للناس كافة، فلا بد أن يبلغهم كافة، ومن غير الطبيعي أن يجتمع معهم في كل مكان ويتكلم وينصح ويرشد، ومن اللازم أن تكون هناك مناسبة ووقت معين لفعل ذلك، وهذا ما فعله النبي ﷺ باختيار يوم الجمعة.
وكما لا يعلم الكثيرون، فكلامي هذا يؤكده ما جاء في الموروث، من أن الأنصار هم من طلبوا من النبي ﷺ في بداية الهجرة أن يجعل لهم يوما يجتمعون فيه كما لليهود والنصارى السبت والأحد، ونحن نميل إلى هذه الرواية استئناسا وليس كدليل.
إذن لم تنزل الآيات أواخر سورة الجمعة، إلا لتفرض هذه الشعيرة وتذكر المسلمين بوجوبها وأهميتها.
وليس هذه الآيات هي من ابتدعت هذه الشعيرة لأول مرة وهذا ما لا يعرفه الأكثرون.
وهنا نختلف مع بعض السلف الذي قال إن الجمعة فُرضت قبل نزول الآية في مكة وتعذر على النبي ﷺ إقامتها تقية منه ومن قومه، ونحن نرى أن هذا قول ضعيف، لأن الله لا يمكن أن يفرض على أمته شيئا غير قابل للتطبيق.
المهم وما يجب أن يعلمه المسلمون، هو أننا نقول إن الجمعة لم تُفرَض إلا ابتداء من نزول الآية، فهي التي أقرتها ودعمتها وجعلتها شعيرة واجبة.
ومع ذلك، سوف نفترض أن كل ما قلنا سابقا مجرد تصور مبني على تحليل تاريخي ولو أننا نعتبره تحليلا علميا مبنيا على وقائع تاريخية وقبل كل شيء على سياق الآية.
ولكن ولكي نقنع المتشبثين باللفظ القرآني، سوف نشرع في تدبر الآيات الأخيرة من سورة الجمعة.
تقول الآية 9 من سورة الجمعة:
أولا: من هذه الآية علمنا أن الجمعة يوم معروف لدى المسلمين من قبل نزول الآية، والشاهد قوله تعالى:
إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ
وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا، فالقرآن يؤكد التاريخ بخصوص هذا اليوم.
سنزيد من التوضيح بالرغم من أن الآية واضحة، ونقول بصيغة أخرى ما تعنيه الآية:
في يوم الجمعة، وعندما ينادي المنادي بالصلاة، قوموا أيها المؤمنون بالسعي إلى ذكر الله واتركوا البيع.
والسعي هو انتقال من مكان إلى آخر، يقول تعالى :
ثم قال تعالى : وذروا البيع أي اتركوا البيع، وهذا يؤكد التحرك من مكان البيع إلى مكان آخر.
ولكن إلى أي مكان سنسعى؟
طبعا إلى المسجد، لأن الصلاة تقام فيه.
وإذا لم يكن إلى المسجد فإلى أين إذن؟ فإذا كان الواجب ترك محل البيع والتجارة فحتما الوجهة هي مكان آخر، وليس هناك مكان لذكر الله غير المساجد.
وكيف عرفنا أن المساجد هي لذكر الله؟
بتطبيق قاعدة تقاطع الآيات (هذه أهم قاعدة في تدبر القرآن، بدونها لا يمكن فهم آيات الله ولا الاستنباط منها).
يقول تعالى:
أحد المتهافتين من الذين يدعون تدبر القرآن الكريم ومن أصحاب أطروحة عدم وجوب صلاة الجمعة، قال إن مصطلح «البيع» المذكور في الآية قيد الدرس ليس هو التجارة، والله لم يقل لنا في هذه الآية كلمة التجارة !!! يعني سخافات غير متناهية.
وكما قلت في كثير من المناسبات، هم يدعون تدبر القرآن، وهم لا يفقهون شيئا في التدبر، فالزعم والادعاء شيء والتطبيق شيء آخر، فمن يدعي تدبر القرآن يجب أن يظهر ذلك فيما يقول وما يطرح من أفكار.
ولكن للإفادة العامة، وجب أن نذكر أن البيع في حد ذاته تجارة رغم اختلاف اللفظ.
فالبائع في الأصل يشتري ثم يبيع، ورغم أن هناك استثناء في أنه يمكن أن يبيع إنسان شيئا يصنعه بنفسه، ولكنه في الأصل يشتري موادا يصنع بها ما يبيع.
وحتى الذي يبيع بعض ممتلكاته كفراش أو أثاث أو مركبة فهو في الأصل قد اشتراها من قبل، ولكن يبقى الفرق بين البائع والتاجر أن هذا الأخير هو بائع في الأصل، أما البائع ليس بالضرورة تاجرا.
وقرآنيا وفي الغالب يأتي لفظ البيع مصاحبا للفظ التجارة إما في نفس الآية أو في إحدى الآيات التي بعدها عنما يكون هناك استمرار في نفس السياق.
فمثلا الآية التي استشهدنا بها قبل قليل رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰرَةٌ وَلَا بَيْعٌ، ثم آخر آية من سورة الجمعة لما قال سبحانه وتعالى: خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِ
وهنا سوف أفتح قوسين لكي نستشعر بلاغة القرآن، ونتساءل لماذا في بعض الأحيان يذكر سبحانه وتعالى فقط البيع ولا يقول مثلا الشراء؟ بكل بساطة لأن البيع لا يقوم به إلا التاجر فهو يبيع ويشتري، ولكن الشراء يمكن أن يقوم به المستهلك الذي لا يمارس التجارة.
وهنا المقصودون في الآية هم البائعون حصرا فهم الذين يستفيدون من التجارة لأنهم يكسبون المال.
نحن لسنا ملزمين بإعطاء كل هاته التفاصيل، بل فقط نذكرها من باب العلم بالشيء وللإفادة (BONUS)، وحتى لدعم قولنا الذي سبق وأن دعمناه بالدليل القرآني الذي يمكن أن يفهمه هؤلاء، إن أرادوا ذلك..
إذن في قوله تعالى «وذروا البيع»، كيف لا تكون صلاة الجمعة واجبة والله تعالى يدعونا إلى ترك البيع والتجارة وأي عمل دنيوي من لهو أو غيره، ولماذا يقول لنا ذلك؟ طبعا من أجل أن نلبي النداء.
شيء آخر أحب أن أستغل الفرصة لأتكلم عنه سريعا...ولكي نضرب عصفورين بحجر واحد، ونقدم دليلا على أن صلاة الجماعة في المسجد ليست واجبة، وأنها فقط فرض كفاية.
فجملة «من يوم الجمعة» التي حددتها الآية، هو تأكيد على أن الوجوب خاص بيوم الجمعة، وليس بباقي الأيام.
وهنا نرد كلام بعض السلف من الحنابلة والذين يقولون بوجوب الصلاة جماعة في المساجد.
ورغم أن المسألة خلافية، وهذا ما ذكرنا في بداية الحلقة، فالجمهور لحسن الحظ (وأبرزهم المالكية والشافعية والحنفية) يقولون بسنيتها، أي أنها غير واجبة.
ولكن لا بأس بإقامة الحجة على قولنا بما ذكرناه، ولكي يتعلم المتلقي طريقة الاستدلال من القرآن وبدون تعسف.
شيء آخر أريد أن أنبه إليه، هو ما علق به أحدهم على إحدى المقتطفات القصيرة حول هذا الموضوع، وقال لي، الله تعالى قال في الآية:
يعني استعمل «من» وليس «في» !!!
وهو لا يعلم أن استعمال حرف «من» هو للتبعيض، ولو استعمل سبحانه وتعالى «في» لكانت كل صلوات يوم الجمعة مفروضة !!
فذكر حرف «من» يعني أن هناك صلاة من بين كل الصلوات هي المعنية بالأمر، وهي صلاة الظهر كما كان معمولا به من قبل.
وهذا دليل أيضا ينضاف إلى ما قلناه سابقا، بأن صلاة الجمعة كانت تُقام قبل فرضها.
نسترسل في تدبر الآيات الخاصة بصلاة الجمعة، ونأتي إلى الآية 10 من سورة الجمعة.
فبعدما أمر سبحانه وتعالى عباده بالسعي إلى ذكر الله، أمرهم بالانتشار في الأرض والسعي في طلب الرزق.
والأحرى أن يجيب أولئك الذين ينكرون صلاة الجمعة وخطبة الجمعة عن هذا السؤال:
لماذا ذكر سبحانه وتعالى لفظ الانتشار في الأرض؟
طبعا لأن الناس كانوا مجتمعين، والانتشار يعني التفرق والذي يأتي بعد التجمع، فالكل سيذهب إلى حال سبيله ليبتغي من فضل الله ورزقه.
ثم بعد ذلك أمرهم سبحانه وتعالى أن يذكروا الله، ولاحظوا هنا الفرق في التعبير الذي ورد في الجملة القرآنية، من قبل قال سبحانه وتعالى: «فاسعوا إلى ذكر الله» وهنا قال: «واذكروا الله كثيرا»، فالأولى فيها سعي إلى المساجد من أجل الصلاة، وفي الثانية ليس فيها سعي، فهو ذكر باللسان من استغفار وتسبيح ودعاء.
هذه هي البلاغة والدقة في التعبير، وهذا ما يميز النص القرآني عن النص الإنساني.
أرأيتم كيف يكون التدبر وكيف يكون الغوص في الآيات؟؟؟
نأتي إلى الآية الأخيرة والتي تحسم في الأمر كله، وتُذكرنا بسبب نزول الآية، وتجيب عن تساؤل البعض: لماذا فرض الله صلاة الجمعة ؟
لقد استنكر سبحانه وتعالى أولئك الذين يجعلون الأولوية هي اللهو والتجارة، فقال عز وجل :
من هو الذي تركوه قائما؟؟ طبعا النبي ﷺ.
وماذا كان يفعل النبي ﷺ قائما؟ طبعا كان قائما يخطب في الناس.
وهنا نؤكد وللمرة الثانية ما تكلمنا عنه في البداية، من أن صلاة الجمعة بخطبتها كانت تُقام قبل نزول هذه الآيات.
فعبارة : « وَإِذَا رَأَوْا۟ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْوًا ٱنفَضُّوٓا۟ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا»، تعني أنه كان بعض الناس ينهضون إلى التجارة فور رؤية فرصة لذلك، ويتركون النبي ﷺ وهو قائم يخطب فيهم ويُعلِّمهم ويوجههم،.
وإذا ركزنا في الآية، فسنجدها واضحة المعنى في أن الناس كانت مجتمعة حول النبي ﷺ، وتفرقوا بعد وقوع حدث مرتبط بالتجارة.
وهذ الحدث كان ربما أو غالبا قدوم بعض القوافل التجارية التي يمكن أن تصادف وقت إلقاء الخطبة، فمعظم الناس آنذاك كانت تشتغل بالتجارة، فكانوا لا يريدون ضياع هذه الفرصة.
وكانت هذه القوافل ربما أو غالبا تكون مصحوبة بالدفوف وبعض وسائل اللهو (مثلما تكون في بعض الأسواق خصوصا في البوادي، وهذا مستمر لحد الآن).
ولذلك ذكر تعالى اللهو والتجارة، وكان يوم الجمعة هو غالبا اليوم الذي يصادف مجيئ القوافل وقيام الأسواق.
من جهة أخرى، وجب أن ننبه إلى شيء مهم مرتبط باعتقاد بعض المسلمين، الذين يتوهمون أن الصحابة كانوا يتركون الصلاة والخطبة، وبالتالي هي ليست واجبة واعتبروا تركهم لها دليلا على عدم حجيتها.
وحتى بعض الملحدين يقولون نفس هذا الكلام، ولكن للسخرية من الإسلام.
الحقيقة هي أن هذا الترك لم يكن عصيانا للنبي ﷺ، لأنه بكل بساطة، ذلك لم يكن فريضة وقتها.
وهذا ما يفسر أيضا السبب اختلافنا مع بعض السلف الذين قالوا أن صلاة الجمعة فرضت من قبل فرض الصلاة العادية !!
فلا يُعقل أن يعصي المسلمون آنذاك النبي ﷺ في الفرائض، ولوكان ذلك لكان الخطاب القرآني مغايرا، ولتوعد الله الذي يتخلفون عن ذلك ما داموا عصاة، ولكن الأمر جاء مختلفا، فنبه الله المؤمنين أن ما عند الله خير من اللهو والتجارة، أي أن تعلم أمور الدين وفهم أحكامه وسماع آيات الله أولى من التجارة ولو أنه سعي إلى الرزق، فختم الله الآية والسورة أيضا بقوله « وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ».
إضافة إلى أن مسألة قدوم القوافل التجارية وقت صلاة الجمعة، مذكورا تاريخيا و موجودة في التفاسير، وهو أمر نقبله لأنه كلام منطقي، ويوافق النص القرآني.
وقد ذكر بعض السلف أيضا أن خطبة الجمعة كانت تُلقى بعد الصلاة (كما هو الحال بالنسبة لصلاة العيد)، فكان بعض الناس يُصلُّون ثم يقومون إلى تجارتهم وإلى لهوهم، ولا يستمعون إلى الخطبة، وما زلنا نلاحظ هذا التصرف في صلاة العيد !!
وبعد ذلك أصبحت الصلاة تُصلى بعد الخطبة تفاديا لذلك، وهذا ربما يكون تفسيرا مقبولا على الأقل أفضل من تأويلات هؤلاء المنفلتين.
أيا كان التفسير، فالآيات واضحة وما قدمناه من توضيح وبيان لها، وما استأنسنا به مما ورد في التاريخ وفي الموروث يؤكد ذلك ويكمل الصورة ويجعلها أكثر وضوحا.
أبعد هذا يمكن أن يشك عاقل في أولوية صلاة الجمعة ووجوبها ؟؟
لم يبق لهؤلاء المنفلتين أي تبرير لاعتقادهم الوهمي بعدم وجوب صلاة الجمعة أو أنها فرض كفاية، أو أي شيء من هذا القبيل.
وحري بهؤلاء أن يكفوا عن هذه التُّرهات، وألا يتنطعوا في التعامل مع القرآن وألا يتمسكوا بآرائهم المتطرفة وأن يتركون عنهم الخرص واتباع الظن، فالظن لا يغني من الحق شيئا.
رحم الله عبدا سمع فوعى..
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))