من المسائل التي يعتقد عامة المسلمين أنها رخصة من الرخص التي أجازها الإسلام : مسألة القصر من الصلاة في السفر.
في إطار مشروع تقويم موروثنا الإسلامي، سوف نحاول دراسة هذه القضية بطريقة علمية خالية من تأثيرات أقوال السلف، والهدف من ذلك هو استجلاء الحقيقة في مسألة تخص أهم ركن من أركان الإسلام، و التي من خلالها سوف نفصل في ماهية شروط القصر في الصلاة.
قبل الخوض في عمق المسألة، تعالوا نستعرض ما جاء في القرآن الكريم بخصوص رخصة التقصير في الصلاة :
يقول عز وجل :
-101-102- سورة النساء
هذه آيات بينات توضح بشكل تفصيلي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها القصر من الصلاة و هي حالة الحرب، بل وقد دقق الله تعالى أكثر فقَيد الرخصة بوجود حالة أخرى و هي الخوف و عدم الطمأنينة، ولذلك سميت صلاة الخوف.
من هنا نفهم أن من شروط التقصير في الصلاة التواجد في حالة حرب إضافة إلى توفر شرط آخر وهو الخوف الذي بدونه تزول الرخصة وذلك بدليل قوله تعالى :
- 103 - سورة النساء
فالقصر من الصلاة لا يصح إذا زال الخوف وتحقق الإطمئنان.
يتأكد لنا بوضوح أن السفر ليس شرطاُ كافيا للقصر من الصلاة فالخوف من العدو أو عدم الإطمئنان شرط أساسي بدونه تزول رخصة صلاة التقصير.
وهنا يحق لنا أن نتساءل : ماذا كان يمنع الله تعالى من ذكر حالة السفر للترخيص بالقصر من الصلاة، كما فعل بالنسبة للصيام؟
ولماذا كان شرط الخوف ضروريا لحصول الرخصة ؟
ببساطة شديدة لا تحتاج إلى عبقرية كبيرة لأنه ليس هناك ما يمنع المسافر أن يقيم صلاته كاملة من دون قصر ما دام ليس هناك مانع معقول كالخوف مثلا.
ثم قياسا بفريضة الصيام، لا تشكل الصلاة مشقة بالغة تحتم على المسافر أن يقصر من صلاته، على عكس الصائم الذي يصير السفر بالنسبة إليه في بعض الأحيان مشقة يتجشمها بصعوبة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو : من أين استقينا رخصة التقصير من الصلاة عند السفر التي لم يجزها القرآن ؟
طبعا ما ورثناه أبا عن جد، وما يحمله موروثنا الإسلامي.
تعالوا نستعرض ما جاء في الروايات عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، في هذا الصدد :
1. باب صلاة المسافرين وقصرها 685 حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ثم فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر .
صحيح مسلم ج 1 ص 478.
هذه الرواية وغيرها التي جاءت في عدة صيغ كلها تتكلم عن نفس المبدأ، وهي ثنائية ركعات الصلوات فهي إما إثنان أو أربعة.
وهنا نجد إشكالا آخر يضع هذه الرواية في موضع حرج فثنائية الركعات تتعارض أصلا مع حالة صلاة المغرب ذات الثلاثة ركعات والتي لا تتحقق فيها هذه الثنائية ، وهذا ما يجعل الرواية غير مقبولة من حيث الاستدلال المنطقي والعقلي.
ورأيي أن الرواية وما شابهها وُضِعت لتأكيد مشروعية القصر في الصلاة.
2. 687 حدثنا يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وأبو الربيع وقتيبة بن سعيد قال يحيى أخبرنا وقال الآخرون حدثنا أبو عوانة عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن بن عباس قال ثم فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة .
صحيح مسلم ج 1 ص 479.
3. باب الجمع بين الوقوف في الحضر 705 حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا خوف ولا سفر.
صحيح مسلم ج 1 ص 489 .
4. رقم 1040 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر قال الزهري فقلت لعروة ما بال عائشة تتم قال تأولت ما تأول عثمان.
صحيح البخاري ج 1 ص 369.
5. 3720 حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت ثم فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الأول تابعه عبد الرزاق عن معمر.
صحيح البخاري ج 3 ص 1431 قرص 1300.
6. باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح 4046 حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان وحدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس رضي الله عنه قال ثم أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرا نقصر لصلاة 4047 حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا عاصم عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما قال ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين 4048 حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن عاصم عن عكرمة عن بن عباس قال ثم أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر تسع عشرة نقصر لصلاة وقال بن عباس ونحن نقصر ا بيننا وبين تسع عشرة فإذا زدنا أتممنا.
صحيح البخاري ج 4 ص 1564.
7. باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبي صلى الله عليه وسلم يوما وليلة سفرا وكان بن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا.
صحيح البخاري ج 1 ص 368.
8. رقم 686 وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم قال إسحاق أخبرنا وقال الآخرون حدثنا عبد الله بن إدريس عن بن جريج عن بن أبي عمار عن عبد الله بن بأبيه عن يعلي بن أمية قال ثم قلت لعمر بن الخطاب : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.
صحيح مسلم ج 1 ص 478.
وهنا نلاحظ تعبير "أمن الناس" أي أن القصر في الصلاة سببه انعدام الأمن وليس السفر في حد ذاته !!!
9. في مسيرة كم يقصر الصلاة 8113 حدثنا أبوبكر قال حدثنا هشيم عن أبي هارون عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخا قصر الصلاة.
مصنف ابن أبي شيبة ج 2 ص 200.
والملاحظ أيضا نه لا توجد رواية يرخص فيها النبي (ص) مباشرة التقصير في حالة السفر !!!، ثم أن عدم استقرار الروايات الموجودة على مفهوم واضح، يضع أكثر من علامة استفهام ويترك مجالا للشك في صحتها، وتبقى في أحسن الأحوال ظنية كما هي كل الروايات بشكل عام، والتي لا يمكن أن نستنبط على أساسها حكما خاصا بعبادة مثل عبادة الصلاة، خصوصا إذا لم يكن هناك تشريع قرآني للقضية.
لقد أتينا بهذه الروايات بشكل أساسي لكي نوضح الخلل ونؤكد على ضعف فكرة وجود القصر في صلاة السفر.
نستنتج إذاً أن مسألة القصر في الصلاة وفي حالة السفر لا تملك حجة مقبولة يمكن أن نبني عليها ركنا من أهم أركان الإسلام ألا وهو الصلاة، فالأحرى والأجدر أن نكون أكثر حذرا في التعامل مع الفرائض التي فرضها الله علينا وأن نعلم عن يقين ما رخصه لنا.
نأتي إلى مناقشة وتحليل ما تواتر فعليا عن النبي الأكرم بخصوص هاته المسألة، ونحن نعلم مسبقا أن طريقة الصلاة وصلتنا عن طريقة التواتر الفعلي، فالسائل هنا سوف يقول :
كيف تواترنا مسألة القصر في الصلاة، وكيف طبقها المسلمون طول هذه المدة إذا كانت غير مشروعة؟
أقول :
إذا طبقنا منهج الاستقراء التاريخي في هذه القضية، وكذلك يجب أن نتعامل مع كل قضية نحاول أن نستجلي فيها الحقيقة - وهذا ما لا نجده عند كلا الطرفين سواء ناقدي الموروث أم الذين يقبلون به كما هو ، فأكثرهم لا يستكملون حلقات النقد التاريخي في تعاملهم مع الموروث - فنجد أنه من الممكن جدا أن تكون رخصة القصر في الصلاة قد استعملت في عهد النبي (ص) في حالة واحدة هي عدم توفر الأمن، و كما نعلم انه في عهد الرسول (ص) كان المجتمع الإسلامي في حالة حرب مع الأعداء، والناس في ذلك الوقت كانوا غير آمنين على أنفسهم ما دام الأعداء يتربصون بهم في كل وقت وحين، فكانت الطريق غير مأمونة والخطر وارد.
وكما نعلم أن أسفار النبي (ص) في مجملها قليلة، فكان أول سفره للهجرة، ثم سفره للجهاد، وسفره للحج والعمرة.
ولقلة وقوعها تواتر الناس مسألة القصر من بعده (ص) وطبقوا القاعدة في السفر من غير أن يتوفر شرط الخوف !!
هذا مجرد تفسير مبدئي وتصور للمسألة، وقبوله أو رفضه لا يمنع من رفض مسألة التقصير في الصلاة عند السفر، كونها غير قائمة على حجج قوية، وإنما قلناه لزيادة التأكيد، و كذا لمن أراد أن يستوعب سر انتشار بعض المفاهيم المغلوطة التي نتوارثها بدون تحقق وما أكثرها.
نعود إلى التطرق إلى الآيات القرآنية التي لم تتطرق إلى حالة السفر.
الآية الكريمة :
- 239 - سورة البقرة.
تؤكد أن الخوف كان دائما شرط التغيير من شكل الصلاة المفروضة.
والخوف وحده هو الذي يشكل استثناء في عدم القيام يالصلاة كما أمرنا بها وعلمنا إياها.
وهنا يمكن أن نستنبط بين قوسين، دليلا آخر على بطلان موروث آخر بخصوص طريقة الصلاة والتي يعتمده كثير من الناس، وهو صلاة الراكب، ونقول بعدم جواز الصلاة فوق أي وسيلة للركوب إلا بوجود عامل الخوف.
وهذا السلوك منتشر بين الناس فهناك من يصلي في الحافلة والسيارة والقطار والطائرة بمجرد دخول وقت الصلاة، ظانا أنه يقيم الصلاة في وقتها.
فصلاة الراكب هي رخصة للخائف الغير المطمئن، والذي يمنعه خوفه من النزول من مركبته أو من دابته، وطبعا هي جائزة لمن يصلي النافلة.
وفي الأخير واعتبارا لما ذكرنا وفصلنا من دلائل وبراهين، نؤكد وبكل ثقة أن الخوف وحده هو ما يتيح رخصة تغيير صلاتنا سواء في الكم أو الكيف، قصرا كان أم جمعا.
في النهاية وإذا أردنا أن نتكلم في إطار فقه المقاصد، أقول :
إن أي حكم أتى به الله وشرعه لنا يكون لسبب أو من أجل هدف معين.
وفي قضيتنا هذه :
لما رخص الله الإفطار في رمضان للمسافر كان ذلك لسبب واضح ألا وهو الإرهاق من تعب السفر والذي يمكن أن يؤذي الصائم في حالة ما اشتد عليه. فيصبح الصوم فيه خطيراً على صحة الإنسان وخصوصاً في بيئة صحراوية كالتي كانت تعيش فيه الأمة الإسلامية في بداية الرسالة.
وبما أن الله يريد بنا اليسر لا العسر، فالمشقة في السفر إذاً هي التي تجيز الإفطار في رمضان وليس شيئاً آخر.
فمنطقيا لا يجوز القصر من الصلاة في السفر مالم يتوفر شرط يجعل إتمام الصلاة فيه خطر على المسافر.
وكما قال عزوجل بخصوص الصيام :
- 184 - سورة البقرة.
فهو يقول لنا أن من استطاع منكم تحمُل الصوم من دون أن يشكل ذلك خطراً عليكم فليصُم فهو خير له، لأن الصوم فيه فوائد شتى.
وقياساً على ما قلت في مسألة الصيام، فحتى الذي لا يقتنع بكل ما قلناه سابقا، من الأفضل له أن يقيم صلاته كاملة وكما أمرنا بها الله، حتى لو كانت نسبة صحة رخصة القصر في السفر قائمة، فخير لنا أن نقيم الصلاة كاملة إذا لم يكن هناك مانع شرعي، ونكون بذلك قد ضمننا صحة صلاتنا وتمامها.
وبناءً على ما بيَّنتُ سلفاً، تكون نتيجة البحث التالية :
ليست هناك صلاة سفر، بل هناك صلاة الخوف ....
القصر يكون في صلاة الخوف لا في صلاة السفر...
ما أقول ليس فتوى بل مجرد رأي مطعم بدلائل وبراهين وهو بيان لمن يريد الإدراك والفهم بعيدا عن ثقافة الرواية.
والله أعلم.
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
[ 1 ] تعليقات :
2014-12-24 00:00:00أحمد من Moroccoouadie_k@yahoo.fr
اجتهاد محمود
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))