ما يجب معرفته قبل تدبر القرآن
منشور في : 2022-04-28
بعد أن بيننا في الجزء الأول، دوافع تدبر القرآن الكريم، وأنه فريضة على كل المسلمين باختلاف مستواهم الفكري والثقافي والعلمي، وباختلاف ألسنتهم، وأن الوجوب يخص بعض القرآن وليس كُلَّه، وأن التدبر مُقدم على الحفظ، وأنه وحده من سيزيدنا يقينا بأن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، سنتطرق في هذه الحلقة بحول الله، لما يستوجب معرفته قبل مباشرة عملية تدبر القرآن الكريم، وفيها سنتبين بعض الأمور التي من اللازم أن نضعها في الحسبان قبل الإقبال على هذه الفريضة المهمة بل والأهم بعد الإيمان بالله تعالى.
مبدئيا، من اللازم أن نعترف أن هنالك عوائق حالت وما زالت تحول بين المسلمين وبين تدبرهم الحكيم للقرآن الكريم، ولكنها ليست عوائق طبيعية بل بشرية مختلقة جعلت بيننا وبين هذا الكتاب المكنون حواجز كثيرة أبعدت الأكثرية عن الإقبال عليه وتدبره.
إن الدعوة إلى الإقبال على القرآن وتدبره، هو إقرار بواقع أُهملت فيه هذه السُنة الإلهية، ونداء لكسر الأقفال الموصدة للقلوب والعقول في سبيل تحقيق غاية التدبر مصداقا لقوله تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
بعض تلك العوائق سوف نختصرها كالتالي:
1. التقوقع الفكري في التعامل مع القرآن الكريم:
هذا ما جسده الواقع الإسلامي ومازال إلى وقتنا هذا، فترى فيه النص القرآني محاصرا، وليس لك الحق في قراءته سوى بعيون السلف، ومن ثم يقتصر فهمك للقرآن وكل ما جاء فيه على عصر معين وعلى أشخاص معينين، فيتم رفض كل فهم متجدد !!!
هذا الأمر الإلهي وهذه الدعوة الربانية للتدبر، سيجدان على الدوام مقاومة من الفكر السلفي التراثي الجامد الذي لا يؤمن بقدرة المسلمين المعاصرين ولا بأحقيتهم في قراءة القرآن بعقولهم لا بعقول من سبقوهم.
ويرجع السبب في هذه المقاومة إلى التوهم بأن البناء الفكري القديم هو نهاية المطاف، وبأنه لا داعي لإعادة تدبر القرآن بأدوات معرفية أكثر علمية، تتناسب مع مرونة الدين.
وهذا بالضبط ما يجب مقاومته من طرف كل متدبر متعطش إلى الفهم السليم للقرآن الكريم، إلى أن يقتنع أولئك أننا كمسلمين مطالبون بالتدبر المستمر، وأن القرآن الكريم معين لا ينضب، وأن إصرارهم على جمود المفاهيم القرآنية، هو إضرار بالقرآن وضد مقولة "القرآن صالح لكل زمان ومكان" التي يؤمنون بها للأسف.
2. غياب فقه الواقع:
بمعنى أن التعامل مع القرآن الكريم لا يجب أن يبقى رهينا بمفهوم عصر يختلف في طبيعته ومشكلاته وعلاقاته ومعارفه عن عصر من يتدبره، بل يجب أن يكون متماشيا مع الواقع، وبالتالي تتحقق نظرية "ثبوت النص وحركية المحتوى".
3. غياب منهج علمي:
وأخيرا وليس آخرا، عدم التوفر على أي منهج علمي قائم بذاته يساعد المسلم على تدبر القرآن الكريم والتعامل معه ثم تفعيله على أرض الواقع.
ورغم كثرة المؤلفات والكتب التي حملها الموروث الإسلامي، إلا أن ما أُلف في موضوع التدبر وآلياتها، يكاد يكون منعدما، للأسباب والمعوقات التي ذكرتها آنفا.
وهذا ما دفعنا للاجتهاد في بحث معمق لإيجاد آليات ربما تؤسس لمنهج قويم لتدبر التنزيل الحكيم.
وفي آخر هذه السلسلة، إن شاء الله، سيتم التطرق لهذا الجانب المهم بل والأهم في قضية التدبر، وسيجد المتلقي ملاذا لكيفية الإقبال على القرآن الكريم وفهمه ثم إدراك مكنوناته، وطبعا مع الإتيان بأمثلة تطبيقية.
باختصار التعامل مع القرآن يجب أن يكون أكثر فاعلية في حياة وسلوك الإنسان، أكثر مما هو عليه الآن، أي يجب الاستجابة لهذه الدعوة الربانية وتفعيلها على أرض الواقع.
إن المغزى من تطرقنا لهاته العوائق، هو البحث عن سبل التخلص منها لكونها تحول بيننا وبين التدبر الحكيم لكلام الله العليم.
وهذه السبل هي في حد ذاتها قواعد وأسس ستكون أرضية ملازمة لمنهج تعاملنا مع التنزيل الحكيم، وهو ما سيُكَوِّن البناء الفكري الذي سيكتمل في نهاية السلسلة بالحديث عن الآليات والأدوات التي ستساعدنا على عملية التدبر القرآني.
فيما يلي سوف نشرع في تأسيس أركان منهج تدبر القرآن الكريم، من خلال وضع أسس التعامل معه، والتي نشأت كرد فعل على المعوقات التي شرحناها سابقا.
أولا وقبل كل شيء، يجب أن نضع في حسباننا أن تدبر القرآن الكريم يتطلب كمبدأ أولي الإيمان به تصديقا غير مشككين به أو رافضين له سلفا، فتدبر القرآن من طرف المؤمنين به، غير قراءته بطريقة الكافرين به، فلكل منهج خاص، ولو أن هناك بعض التقاطعات.
المبادئ العامة:
- نفي التناقض عن التنزيل الحكيم:
كانطلاقة لموضوع يعتبر من أدق المواضيع التي يمكن أن يخوض فيها المسلم، كما أنه من أهمها بل وفي رأيي يقف متربعا على رأس العلوم والمعارف كلها، هذه الآية التي تختزل جل ما نريد قوله بخصوص التدبر القرآني ألا وهي :
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا
أول مُسَلَّمة يمكن أن ننطلق منه ونبرهن بها على أي فهم قرآني، هو كون القرآن خال من أي تناقض.
أي أن المنظومة القرآنية هي متكاملة ويستحيل أن نجد فيه تناقضا، وإذا وجده قارئ فيجب أن يعلم أن التناقض هو في فهمه وليس في القرآن.
وعلى هذا الأساس يعتبر القرآن هو المهيمن على الأفهام والعقول وأي فهم يخرج عن كلام مبين في القرآن، يعتبر نقيصة في الفهم وليس في كلام الله (تعالى عن ذلك عز وجل)
- التدبر القرآني ليس زعما أو ادعاء، بل تطبيق فعلي وإذعان لكلام الله وتصديق له:
في العصر الحالي جل الفقهاء المسلمين أو بالأحرى جل أتباع علماء السلف يدعون أنهم يرجعون إلى كلام الله والقرآن العظيم في الاستدلال ويزعمون أنهم يعرفون كتاب الله وأحكامه وحلاله وحرامه، ولكن للأسف، كثير منهم، ليسوا في حقيقة الأمر إلا مجرد تابعين لمن سبقهم من العلماء أو مجرد مرددين لكتب التفسير والسيرة والحديث، وليس لأغلبهم أي عطاءات خاصة بتدبر القرآن الكريم، إلا شذرات لا تخرج عما فهم أسلافنا وكتبوه في مؤلفاتهم.
وهذا التدبر هو بالضبط ما فعله النبي ﷺ والخلفاء من بعده، فالرسول ﷺ فعل كتاب الله على أرض الواقع، ونقل منهجه أي الحكمة التي علمه الله إياها، إلى الرعيل الأول من أصحابه، فكانت كل فئة تنهج نفس النهج حتى أتى عصر التدوين، وأُهمِل القرآن وتم اللجوء إلى جمع الروايات واختلط الصالح بالطالح، ودخلت الأمة في الفتن، ونبت فقه آخر تشبع بفقه الرواية، إلى أن أنتج ما نحن عليه الآن.
الاعتماد الكلي على تفسيرات السلف دون استعمال الحس النقدي، لا يخدم عملية التدبر، بل يمكن أن يكرس مفاهيم خاطئة سواء في العقيدة أو الأحكام أو غيرها.
وهنا الأمثلة عديدة، وأهمها ما دُس في التفسيرات الموروثة من إسرائيليات، وما فُسر اعتمادا على بعض الروايات التي هي أيضا موضوعة أو من الإسرائيليات.
- التعامل مع القرآن يجب أن تكون له أهداف وغايات نبيلة:
في نفس الوقت الذي يجب التخلص من أية آراء أو أحكام مسبقة أ واعتقادات أو عادات موروثة يمكن أن تؤثر في تعاملنا مع الذكر الحكيم، من الواجب كذلك أن يكون تدبرنا موضوعيا وليس له هدف غير خدمة الدين الحنيف، وليس إيجاد ثغرات من أجل النيل منه.
أمثلة من الثغرات التي يبحث عنها أعداء الدين: أخطاء لغوية مزعومة، تناقضات وهمية، تأويل سيء (اختيار بعض الآيات المتشابهات)، الاتكاء على تفسيرات تراثية مأخوذة من الإسرائيليات....
فكون القرآن ينقسم إلى ما هو محكم وما هو متشابه، فعلى أساس ذلك لا يجوز لمن لا يؤمن بالقرآن، وهو طبعا غير المسلم، أن يتطرق للمتشابه كمادة للتحليل ويركز عليها تاركا المحكم، من أجل أن يثبت حاجة في نفس يعقوب !!!!
فالتعرض إلى المتشابه من الآيات تفرض الإيمان بالقرآن سلفا، ولا يجوز للملحد أو الكتابي تدبرها.
- الاستقلالية في التعامل مع آيات القرآن دون ممارسة قطيعة مع الموروث:
رغم أننا ننادي بالتحرر من تأثيرات الفقه التراثي التقليدي قبل الإقبال على تدبر القرآن الكريم، لا يعني ذلك القفز فوق عطاءات السابقين من المخلصين لهذا الدين، بل انتقاء الصالح من أفهامهم واجتهاداتهم دون إذعان أو قبول سلبي، مع امتلاك الحس النقدي في تلقيها، لأننا كما نقول دائما نحن لا ننادي بإعادة اختراع العجلة، مهمتنا هي تتمة ما قاموا به أسلافنا مع تقويم وإصلاح ما يجب إصلاحه، من باب المسؤولية التي يتحملها كل محسوب على الإسلام الدين القويم الأقوم.
مثلا : تطبيق مبدأ خالف تُعرف: أكبر معول هدم لمسألة تدبر القرآن الكريم.
وغالبا ما يتم اعتماد التفسيرات الباطنية في هذا النوع من التدبر الغير المحمود، فنحن كما السلف نتفق في مسألة التفسيرات الباطنية التي تجعل كل آية لها تفسير غير ذلك الذي يظهر من الوهلة الأولى (أي ظاهر الآية)، وقد تبنت هذا النوع من التفسير بعض الطوائف وأشهرها الطائفة الإسماعيلية الشيعية.
وهو أصلا كان ممارسا من طرف اليهود في تفسيرهم للتوراة.
وللأسف، نهج هذا الطريق بعض المعاصرين، ممن يُسمَّون "بالقرآنيين" أو بعضهم.
وهذا النوع من التفسير هو أقرب إلى التأويل منه إلى التفسير، لأن التأويل كما قلنا في حلقة سابقة، هو من علم الله، فالله وحده يعلم مآل الأشياء أي المغزى الحقيقي.
وكمثال نبسط من خلاله مفهوم التأويل، قصة موسى مع العبد الصالح، فكل ما تم بيانه لموسى في سورة الكهف، هي تأويلات لما قام به العبد الصالح والتي لم يفهمها النبي موسى، ولم يستوعب ما قام به العبد الصالح من خرق للسفينة وقتل للغلام، لأن الأمر هنا لا يُفسر ولا يمكن أن يقبله أي كان، إلا عندما يُعرف تأويل هذه الأعمال، ولذلك قال تعالى:
قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا
وربما يأتي مقال خاص فيه تفصيل أكبر لمسألة التأويل إن شاء الله.
ما نريد أن نصل إليه، هو أنه لا مجال لإقصاء ما وصل إليه من سبقونا دون سبب مقنع، لأن العلم بشكل عام أو أي اجتهاد بشري في أي مجال هو تراكمي، أي هناك تعاون غير مباشر بين الناس على اختلاف العصور التي عاشوا فيها، فلا يمكن في كل مرة، نريد تصميم سيارة جديدة، أن نحاول إعادة اختراع العجلة، فلو كانت الأمور بهذا الشكل ما تقدمت الحضارة ولا البشرية.
خلاصة:
المبادئ التي يجب أن نستحضرها خلال عملية التدبر:
نفي التناقض عن الذكر الحكيم
التدبر القرآني ليس زعما أو ادعاء
النية السليمة في التعامل مع القرآن الكريم
الاستقلالية في التعامل مع آيات القرآن مع الاستئناس بما حمله الموروث
أي تدبر عشوائي وغير ممنهج بشكل علمي وعقلاني في فهم آيات القرآن، لا يضع في اعتباره جوانب اللغة والتاريخ ولا يخضع للمنطق، وغير متوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة، ولا مع المنظومة القرآنية الكاملة، هو مجرد اجتهاد بائس لن يؤدي إلا إلى نتيجة عكسية ولن يساهم إلا في بعثرة بل وإفساد عملية التدبر القرآني.
هذه القواعد والأدوات هي التي سوف نجتهد في تقديمها، وبطريقة مقتضبة، في الجزء الأخير من هذه السلسلة، مع بعض الأمثلة التطبيقية التي ستمكن المتلقي من استيعابها بشكل جيد.
في الجزء الموالي ، سوف نشرع في تقديم ثمرة هذه الدراسة المباركة، والتي تتجلى في تقديم منهج قويم لتدبر التنزيل الحكيم.
** الكاتب : وديع كيتان **