لقد تكلمنا فيما مضى في بحث منفصل عن معنى السنة بشكل عام، وعن السنة النبوية بشكل خاص، وأثبتنا بشتى أنواع الدلائل أن السنة بطبعها هي بطبعها هي فعلية أي ليست مرتبطة بالأقوال بل مرتبطة بالطريقة والمنهج والسلوك.
أولا، تقسيم السلف للسنة، وخصوصا أهل الحديث، إلى سنة قولية وأخرى سنة فعلية هو تقسيم اصطلاحي فقط وليس مبنيا لا على نص قرآني ولا على نص نبوي أي حديث (وهذا فقط للتذكير).
فقالوا إن الأحاديث المروية هي السنة القولية، وكما يروي التاريخ، فقد بدأ هذا الاصطلاح على يد الإمام الشافعي (والذي ولد سنة 150ه)، وأما قبله لم تكن تُعرف السنة إلا أنها فعلية، والمعروف أن الإمام مالك كان يعتبر عمل أهل المدينة من السنة، وكان يرد الأحاديث إذا خالفت هذا العمل.
إذن فالسنة الحقيقية للنبي ﷺ إن أردنا أن نستعمل هذا اللفظ، هي العمل النبوي المتواتر المنقول عن النبي ﷺ من دون انقطاع.
وهذه الدراسة المباركة هي التي سوف نبين ونوضح من خلالها العلاقة الوطيدة بين السنة الفعلية للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وبين ما يُسمى بالتواتر العملي والذي هو محور قضيتنا الحالية.
وسوف نبرهن كذلك على أن هذا التواتر العملي ليس مصطلح دينيا أو شرعيا وإنما هو دليل علمي وعقلي، وأن الفرق شاسع بينه وبين التواتر القولي الذي عرف لدى السلف بالحديث المتواتر.
فإذا كان الهدف من هذه الدراسة هو التأكيد على قوة السنة الفعلية للنبي ﷺ كحجة، فليكن من خلال البرهان على حُجية التواتر العملي.
هذا من جهة، وأما من جهة أخرى، سوف نثبت باليقين أن روايات الحديث والتي جلها بنسبة مئوية تقترب من المائة تعتبر أخبار آحاد، والتي اتفق أهل السلف من المخالفين على أنها ظنية، هي ليست الضامنة لنقل أفعال الرسول ﷺ سواء كانت شعائر تعبدية أو غيرها من الأفعال، وإنما هو التواتر العملي الذي ضمن تناقلها عبر الأجيال إلى أن وصلنا بالشكل الذي نعرفه.
وهنا لابد أن نشير إلى أمر لم أجد له تفسيرا لحد الآن، هو عدم اهتمام علماء المسلمين ولا فقهائهم بالتواتر العملي !!، بل اهتموا أكثر بالتواتر القولي أو بالضبط بالحديث المتواتر، والذي سنتطرق له باختصار في هذه الدراسة فقط لنبين أنه الأضعف بين أنواع التواتر.
واهتمامهم بالتواتر القولي كان لإثبات قطعية القرآن الكريم، ثم بعده الحديث المتواتر.
وقد غامر السلف باستعمال آلية التواتر القولي لإثبات قطعية القرآن الكريم، في حين أن قطعية النص القرآني هي موجودة فيه، وإعجاز القرآن بشتى أنواعه هو ما يثبت قطعيته، وليس تواتر نقله وإلا لصح محتوى الإنجيل والتوراة كذلك بنفس المنطق !!!
كما نذكر أننا ومن خلال بحثنا لم نجد لدى فقهائنا الكرام أي كلام معمق بخصوص التواتر العملي بشكل عام، لأنهم كانوا يركزون فقط على أثر النبي ﷺ من خلال أقواله.
وكان الإمام مالك تقريبا هو الوحيد الذي استعمل تعبير «عمل أهل المدينة» لكي يعبر عن التواتر العملي، ومذهبه قائم على هيمنة العمل النبوي وأثره على الحديث في حال تعارضه معه، وهذه حسنة كبيرة تحسب لدى هذا الإمام الكبير.
وأما المعاصرين، وخصوصا الذين ينكرون كل الموروث الديني، ستجد الكثيرين منهم من ينكر كل أنواع التواتر وبالتالي لا يعتبرونه دليلا وحجة، وهم يفعلون ذلك جاهلين بماهية التواتر لعملي، فبالنسبة إليهم فكله تواتر سواء كان قوليا أو عمليا.
فلذلك تُعتبر دراستنا فاصلا جوهريا في قضية التعامل مع السنة النبوية، نضرب بها عصفورين بحجر واحد، أولا الفصل بين السُّنة والحديث وهذا نخص به التراثيين، ثم إثبات حجية التواتر العملي وأنها الدليل القوي على صحة السنة الفعلية للنبي ﷺ، ولا مجال لإنكارها أو ردها.
كما أنه ولسبب عدم تطرق أغلب السلف للتواتر العملي، فإننا نعتبر أنفسنا منفردين بهذه الدراسة، ونوضح من خلالها أن التواتر القولي شيء والتواتر العملي شيء آخر، وإن كانا يشتركان في بعض الجزئيات والحيثيات.
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))