قبل كل شيء فالتواتر وإن كان يبدو منحصرا على الثقافة الإسلامية، فهو أداة معرفة إنسانية.
وكل الشعوب تواترت لديها إما أقوال أو أفعال مثل العادات والتقاليد أو أحداث مثل تعاقب الحضارات والدول والملوك.
وهنا يجب أن نفرق بين صحة ما يُتواتر لدى كل الثقافات وبين موافقتها لشرع الله وللدين بصفة عامة.
فنحن كمسلمين نعلم أن ما تواتر لدى المسيحيين مثلا من عقيدة التثليث هي ضد عقيدة توحيد الله تعالى والتي جاءت بها جميع الملل والكتب السماوية بما في ذلك الإنجيل نفسه، ولكن هذا لا يمنع صحة تواتر هذه العقيدة لديهم.
أما فيما يخص الثقافة الإسلامية، فالتواتر يأخذ طابعا خاصا، لأنه محاط بنص قطعي يتمثل في القرآن الكريم.
فمهما بلغت درجة قوة التواتر سواء كان قوليا أم عمليا فلن يصلح كحجة ولن يعتبر شرعيا ومقبولا إذا لم يسنده دليل مأخوذ من مرجعية قطعية ثابتة، والقرآن الكريم هو النص القطعي الوحيد الذي نعتبره كذلك.
ولذلك فنحن لسنا مع الرأي الذي يقول إن دليل صحة القرآن الكريم هو تواتره، لأنه بكل بساطة تواتر قولي يحتاج إلى دليل آخر يسنده.
ونحن نؤمن بصحة القرآن الكريم وقطعية نزوله من لدن الله تعالى، ليس لأن المسلمين تواتروه على مر الزمن، فكما قلنا سابقا، حتى الكتب السماوية الأخرى، التوراة والأناجيل تواتره المسيحيون على مر الزمن، ورغم ذلك أننا نراها نحن المسلمين أنها محرفة وأن النسخ الأصلية ضاعت !!!
ولكننا نؤمن بصحة القرآن الكريم لأن الله تعهد بحفظه، ووضع فيه ما نستدل به لإثبات قطعية النص القرآني.
فالبرهان على أنه كلام الله يوجد في محتوى القرآن نفسه، وقد تكلمنا في هذا الباب في دراستنا حول أنواع الإعجاز في القرآن الكريم والموجودة على موقعنا الشخصي، وكذا على قناتنا على اليوتيوب، وأثبتنا فيها مصدريته الإلهية معتمدين على مختلف أنواع الإعجاز فيه البلاغي، والمنطقي، والعلمي، وغيرها...
ولذلك نذكر بأهم قاعدة تعتبر المؤطر الأساسي لصحة ما يمكن أن يُتواتر من سنة الرسول ﷺ، هذه القاعدة هي توافقه مع القرآن الكريم من حيث التأصيل إما بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
سوف نتعرض الآن لقواعد وشروط التواتر العملي بشكل عام وبعيدا عن المقاربة الدينية، وذلك لنثبت أنه دليل علمي وعقلي ومنطقي قبل أن يكون حجة للتأكيد على مفهوم ديني بعينه.
وسنذكر هنا فقط القواعد والشروط الأساسية وذلك تفاديا للإطالة.
قواعد وشروط التواتر العملي:
1.التكرار: frequency
أو التردد المستمر.
وهذا شرط أساسي يدخل أصلا في تعريف العمل المتواتر.
فنقول إن هناك تواترا عمليا إذا كان العمل يُمارس بشكل مكرر وبشكل موسمي إلى أن يصبح اعتياديا.
وليس شرطا أن يكون التكرار يوميا، بل يمكن أن يكون أسبوعيا أو شهريا أو سنويا، بل هناك أعمالا يمكن أن تتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد.
وإذا أخذنا السنة الفعلية النبوية، فالصلاة هو عمل تواتري يتكرر خمس مرات في اليوم الواحد.
كذلك ليس شرطا أن يكون تكرار العمل منتظما.
2. عدم محدودية الزمان والمكان وعدد الممارسين:
لكي يكون العمل متواترا، يجب أن يستمر هذا التواتر منذ نشوئه إلى حين زمن الحكم بتواتره على مدى أزمنة مختلفة، وفي أمكنة متعددة، وممارسا من طرف أقوام مختلفين ومتفرقين.
فكل عمل لم يُمارس سوى في زمن محدد أو في مكان محدد أو من طرف عدد محدود من الناس لا يُعتبر متواترا.
نفس المثال الذي ذكرناه سابقا، فالصلاة هو عمل تواتري مارسه ويمارسه المسلمون في كل الأزمنة وفي كل بقاع الإسلام، من طرف شعوب مختلفة يجمعها ويوحدها دين الإسلام.
3. الشهادة:
في كل فترة زمنية معينة، يجب تواجد شهود كثيرين قائمين على استمرار العمل، وهم الذين ينقلونه تباعا عبر أزمنة مختلفة فترة بعد فترة.
فغياب الشهود على العمل يفقده التواتر.
نفس المثال عن الصلاة، فصلاة الناس في المساجد التي توجد في بلدة ما، يكون عليها شهود كثيرون لأن العمل ظاهر للعيان ودائما هناك أناس من تلك البلدة يرون المصلين ويشهدون عليهم.
4. عدم الانقطاع:
التواتر يجب أن يتم دون انقطاع، وإلا انتفت عنه صيغة التواتر.
فإذا كانت هناك حقبة زمنية لم تتم فيها ممارسة ذلك العمل، وانقطعت الشهادة عليه من طرف معاصري تلك الحقبة إما بموتهم أو ندرتهم، فلا نقول عن هذا العمل أنه متواتر.
ولكن في هذه الحالة يجب أن يكون هذا الانقطاع موثقا ومؤرخا وله شهود أيضا لكي يتم القبول به.
الصلاة كمثال، لم يكن هناك أي انقطاع لعبادة الصلاة منذ تشريعها من لدنه سبحانه وتعالى وبداية تطبيقها من لدن الرسول والمؤمنين إلى الآن.
فلم نشهد أي عصر لم تقم فيه الصلاة في المساجد فتواترها استمر منذ الرسالة إلى الآن وبنفس الطريقة التي نعرفها بها.
5. عدم الاختراق:
كذلك فالتواتر يجب أن يتم دون اختراق، وإلا انتفت عنه صيغة التواتر.
فمن الممكن أن يقع اختراق لأي عمل متواتر لمدة زمنية معينة، بأي بطريقة من الطرق إما قهرا أو مكرا سواء من طرف السلطة أو من طرف دولة محتلة ثم تناقله الناس بعد ذلك محرفا.
ونفس الشيء كما هو الحال بالنسبة لشرط عدم الانقطاع، فالاختراق يجب أن يكون موثقا ومؤرخا وله شهود أيضا لكي يتم القبول به.
هذا الشرط ينطبق أيضا على الصلاة، فلم نعرف أي اختراق لعبادة الصلاة أثر في ممارستها لا من حيث حدوثها ولا من حيث الشكل ولا من حيث أوقاتها.
6. عدم الاعتراض:
أهم شرط من شروط التواتر العملي هو عدم وجود اعتراض عليه من طرف مجموعة من الناس، مما يشكل شهادة مخالفة تطعن في الشهادة الجماعية الموجودة في تلك الفترة الزمنية التي يحدث فيها الاعتراض، والذي يمكن أن يكون سببا في بعض الانقطاع.
وحتى لو وردت فقط أخبار موثقة أو كلام موثق لشخص موثوق به من أهل العلم المشهورين، بخصوص هذا الاعتراض، فيمكن أن يحدث ذلك اضطرابا في استمرار العمل التواتري.
أما إذا انتفى وجود معارضة لهذا العمل فلا يمكن إلا أن نحكم عليه بالتواتر.
وإذا أخذنا نفس المثال، فالصلاة لم تعرف أي اعتراض من طرف أحد من أهل العلم أو الفقه أو لمؤرخ نقل شهادة مغايرة تفيد بانقطاع عبادة الصلاة أو تغير طال أوقاتها أو شكل ممارستها.
هذه أهم القواعد والشروط التي يتحقق به التواتر، وأشير هنا أنني لم أحصر كل الشروط الممكنة، فقط تلك التي اعتبرتها أساسية وكافية بالنسبة لوجهة نظري لإثبات التواتر.
وإذا لاحظ المتلقي، فالصلاة هي أكبر وأدق مثال للتواتر العملي والذي يعتبر دليلا قويا على صحة تناقلها، كذلك كل الشعائر التعبدية هي من التواتر العملي.
وبالمناسبة وبعد أن انتهينا من هذه القواعد والشروط، أنبه كل مهتم، وأوجه هذا الكلام خصوصا لأولئك الذين ينكرون بعض الأعمال المتواترة التي تناقلت منذ زمن بعيد وأقول لهم:
المسألة ليست بتلك البساطة، وأن الإنكار يلزم له على الأقل إثبات عدم توفر إحدى تلك الشروط المذكورة وإلا كان الإنكار مزاجيا وغير ذي قيمة.
وهذا مالم ينجح فيه لحد الآن أي من منكري الشعائر التعبدية من بعض المنفلتين من الذي ينكرون كل التراث.
وسنقوم في نهاية الدراسة بحول الله، بإنشاء جدول للأعمال التواترية التي تنطبق عليها الشروط والقواعد التي وضعناها سابقا، لنرى حقيقة التوجه الذي ذهبنا إليه، وصحة المنهج العلمي الذي استعملناه.
وفي نفس الوقت يمكن أن نذكر بعض الأعمال شبه التواترية، والتي لا تنطبق عليها كل الشروط والقواعد، وبالتالي لا يمكن أن نعتبرها صحيحة أو قطعية، وهذا منهجنا في التعامل مع هذه القضية والله ولي التوفيق.
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))