نأتي الآن إلى أهم فقرة في هذه الدراسة المباركة، وهي استعراض بعض السنن النبوية الفعلية التي ينطبق عليها التواتر العملي.
لقد كان الهدف ولا زال من هذا البحث القيم، هو توضيح بالدليل والبرهان على أن السنة الفعلية للرسول الأكرم ﷺ الحقيقية تتمثل في عمله الذي قام به بتطبيق أحكام الله ثم في اجتهاداته في فهم التنزيل الحكيم بفعل الحكمة التي آتاه الله إياها.
وبما أن الله تعالى أمرنا بالتأسي والاقتداء بالرسول ﷺ، وهذين الأمرين هما يخصان أفعاله وأعماله، فسنته الحقيقية هي ما كان يقوم به هو وأصحابه وقومه الذين اقتدوا به، ثم تواتر العمل جيل عن جيل جماعة عن جماعة في إشهاد تام.
وأهم ما تناقلناه وتواترناه هو طريقته في إقامة الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وحج ومناسك وغيرها من أمور الفطرة التي نقلها عن أبي الأنبياء إبراهيم، والذي أمره الله تعالى أن يتبع ملته.
سنستعرض الآن قائمة الشعائر التعبدية وما يتعلق بها والتي تدخل في التواتر العملي:
1.الصلاة :
o الطريقة، عدد الصلوات وأوقاتها:
أكبر مثال على التواتر العملي هي طريقة الصلاة :
فتفاصيل هذه العبادة تم بشكل لم يتغير منذ تشريعها إلى حد الآن، فهي تمارس كل يوم وفي جماعة في المساجد وتبدو للعيان، فأي تغيير في الطريقة سوف تتم ملاحظتها من طرف المصلين، وسوف يتم تصحيح ذلك طبقا لما علمهم الرسول.
فلا يختلف اثنان من المسلمين منذ عهد الرسالة إلى الآن لا حول عدد الركعات في كل صلاة ولا في الركوع ولا السجود ولا في تكبيرة الإحرام، وكل ما يُعتبر ركنا من أركان الصلاة التي لا تجوز إلا بها.
فلا يأت أحد الآن في أكثر من أربعة عشر قرنا بعد فرضها ويقول أن الصلاة ليست حركية أو أن عددها ثلاثة، وأن القرآن لم يذكر خمس صلوات !!! هذا كلام غير علمي بل كلام بائس وينم عن جهل مطبق وتهافت ليس بعده تهافت.
فالقرآن علاوة على أنه لم يذكر لا عدد الصلوات ولا أوقاتها ولا شكلها، ولكنه في المقابل أشار إلى بعض منها فقط لكي نطمئن على صحة ما وصلنا.
هذا أولا، وثانيا لأن الصلاة هي بطبيعتها عملية، وكل ما هو عملي من الأفضل أن نتعلمه بالممارسة وليس بالكلام النظري.
والتواتر العملي للصلاة قضى على أي إمكانية لتحريفها منذ فرضها وإلى الآن.
أما بعض الاختلافات الطفيفة الموجودة في طريقة الصلاة مثل توقيت رفع أصبع السبابة عند التحية أو التشهد، أو مكان وضع اليدين عند القبض، أو غيرها من أمور لا تؤثر في تواتر الشعيرة الأكيد وعدم تغير أركانها، والأهم أن تلك الاختلافات لم تؤثر على الصيغة الأصلية لطريقة الصلاة كما كانت عليها في عهد الرسول ﷺ.
وحتى ما يتداول من اختلافات بين المذاهب وخصوصا الشيعة والسنة، فهي لم تظهر إلا حين احتدام الصراعات السياسية بينهم، فنتج عن ذلك انزواء فرقة الشيعة وتكلفها في الاختلاف، وقد قلنا سابقا إن السلطة السياسية هي من تستطيع أن تغير في العمل المتواتر.
ثم لا ننسى أن نذكر أيضا أوقات الصلاة، فهي من التواتر العملي، ورغم أنها أخبار متواترة، ولكن تطبيقها على أرض الواقع كان مشهودا من طرف العامة منذ عهد الرسالة، وبالتالي تنطبق عليها قواعد وشروط التواتر العملي، وبالتالي فلا سبيل لإنكارها أو التشكيك فيها لمجرد البحث في المصطلحات اللغوية، بل يجب الإثبات بالدليل على حدوث انقطاع للعمل المتواتر بعد الرسالة ثم استئنافه في زمن متأخر بشكل مغاير، وهذا مالم يستطع ولن يستطيع أحد فعله.
في الأخير وبخصوص الصلاة، لا بأس أن نذكر بالشرض الضروري لصحة تةاتر الصلاة، وكما قلنا سابقا أن شرعية تواتر السنة الفعلية للرسول يجب أن تُستمد من القرآن الكريم، أي أن يكون لها أصل تشريعي منه، وهذا ما ينطبق على الصلاة بشكل لا جدال فيه.
ولنا في هذا الموضوع دراسة كاملة مفصلة بيننا فيها كل ما يدور في فلك صلاة الجمعة وبشكل لم يسبق لأحد أن تناولها بالشكل الذي قدمناه.
o صلاة الحائض والنفساء:
من الأمور التي يعترض عليها بعض المتهافتين، قضية عدم صلاة الحائض والنفساء، لعدم ورود نص قرآني بخصوص ذلك.
وطبعا وناهيك عن أن شرط الطهارة ضروري للصلاة، وأن الحائض غير طاهرة بنص القرآن، وبالتالي يمكن استنباط عدم جواز الصلاة لها والنفساء، فالتواتر العملي يؤكد أن ما نحن عليه يوافق ما كان عليه أيام الرسالة.
فكل شروط وقواعد التواتر العملي ينطبق على هذه القضية، وأنه لم يثبت ولم نسمع أنه في عصر من العصور التي تلت عصر الرسالة أن اعترض أحد على هذا الأمر، إلا ما تهافت بشأن ذلك بعض المنفلتين ممن يطبقون مبدأ خالف تعرف.
لا بأس هنا أن نفتح قوسين، ونذكر استثناء خاصة بصلاة القصر في السفر، والذي تكلمنا عنه في بحث منفرد، وأثبتنا أن السفر لا يرخص للقصر من الصلاة، وأن الخوف وحده من يجعلنا نقصر من الصلاة، وآيات الله واضحة في ذلك.
ونرد مسبقا على من يعترض على هذا الكلام بالقول أن القصر في صلاة السفر هو أيضا يدخل في السنة المتواترة، نجيب بالنفي، فشروط تحقق التواتر منعدمة على الأقل ليس كلها.
فآيات القرآن، لم تذكر السفر كرخصة، كما هو الحال بالنسبة للصيام مثلا، وإنما جاء ذكر الخوف، بل كان التأكيد مستمرا على أن الاطمئنان يزيل رخصة القصر، وقد فصلنا في ذلك من قبل، وعلى من يريد التحقق والاستفاضة فعليه بالبحث في موقعنا الشخصي، أو بالحلقة المصورة في قناتنا منبر اولي الألباب.
وبالتالي لا يدخل القصر من الصلاة في العمل المتواتر لأن شروط وقواعد التواتر العملي غير متوفرة.
فالزمن الأول للرسالة، لم تكن أسفار الرسول كثيرة، ولم تتجاوز الأربع مرات، وحتى أسفار الناس لم تكن كثيرة، فقاعدة التكرار مفقودة، وبالتالي فانقطاع هذا النوع من العمل محتم، ثم غياب شهود كُثُر على القصر من الصلاة في السفر يجعل تواتره غير مؤكد، إضافة إلى أن الناس حينئذ كانوا في حالة خوف مستمرة بسبب الصراع مع الكفار والمشركين، فمن الطبيعي أن يقصروا تطبيقا لرخصة القصر فالخوف موجود.
فالقصر من صلاة السفر هو مثال لعمل يبدو متواترا ولكنه ليس كذلك للأسباب التي ذكرناها سابقا.
2. الصيام:
o صيام فرض أم تطوع:
طبعا يخرج من وقت لآخر بعض المنفلتين من الذين يشطحون بخيالهم ويقولون بعدم وجوب الصيام وأنه اختياري، ويتم الاحتكام في ذلك إلى تفسير متعسف لبعض المصطلحات اللغوية الواردة في آيات الصيام، مثل مصطلح «كتب على»، أو إلى بعض التفسيرات الشاذة لكلمة «يُطيقونه».
وناهيك عن أننا حسمنا في مناسبة سابقة في مسألة وجوب الصيام بالاعتماد فقط على آيات الصيام، وباعتماد التفسير اللغوي إلى جانب السياق القرآني، والذي بيننا أن هذا الأخير يهيمن على الأول، ورغم ذلك، فتواتر الصيام يفصل في هذه القضية دونما الحاجة إلى الجدال اللغوي.
فالصيام شعيرة تعبدية تُعد من الفعل المتواتر الذي تنطبق عليه شروط وقواعد التواتر العملي.
وبالتالي فالصيام واجب وليس عملا اختياريا، وأما الاختيار أو بالأحرى التطوع، فهو يخص المعذورين من مرضى ومسافرين.
ونذكر بالمناسبة هنا مثالا حيا لعمل متعلق بعبادة الصيام، وهو غير متواتر ومبني فقط على حديث آحاد وحيد وهو المتعلق بصيام الست من شوال، فكما لا يعلم الجميع أن هذا العمل لم يثبت في سنة الرسول ﷺ الفعلية كما أكد على ذلك الإمام مالك، بل ولم يثبت عن أي أحد من الصحابة ولا من عمل أهل المدينة.
ورغم ذلك ما زال التراثيون يتوهمون أن صيام الست من شوال من سنة النبي ﷺ رغم عدم توفر الشروط اللازمة لتحقق التواتر وبالتالي نثبت تهافت التراثيين أيضا وليس فقط مقاطعو الموروث.
o وقت الإمساك والإفطار
كذلك من شطحات ذاك الفكر المنفلت، أن أصحابه قاموا مرة من نومهم وقرروا التشكيك في أوقات الإمساك والإفطار في رمضان الشهر الفضيل.
فبالنسبة لوقت الإفطار فكأنهم أول من قرأ الآية الكريمة : «ثم أتموا الصيام إلى الليل»
واعتبروا أن الأمة الإسلامية تفطر وقت صلاة المغرب وليس الليل وبالتالي فكل أفراد الأمة ضالون، وهم فقط الراشدون، وطبعا هذا نوع من الخرف والجهل باللغة قبل أن يكون جهلا بقيمة التواتر العملي لشعيرة الصيام.
فالليل ليس هو الظلام كما يظن هؤلاء، بل أن الظلمة هي فقط مرحلة من مراحل الليل، وأن عبارة «إلى الليل» تدل على أول الليل الذي هو الشفق وهو وقت صلاة المغرب.
والمهم هنا ليس إعطاء دروس في اللغة العربية، بل التأكيد على أنه ولو لم يذكر سبحانه وتعالى وقت الإفطار، فالسنة النبوية الفعلية المتواترة كفيلة بتوضيح ذلك، كما بيننا سابقا.
o صيام الحائض والنفساء
هذه المسألة تعتبر من أكبر المسائل التي تعتمد بشكل أساسي على سنة التواتر العملي.
فرغم زعم هذه الفرقة المنفلتة من الذين ينكرون صيام الحائض والنفساء اعتمادا على حجة عدم ورودها بشكل صريح في القرآن الكريم، فإنما تواترها العملي قضى على حجتهم، وأنه يلزمنا فقط البحث في القرآن الكريم عن أصل لهذه الرخصة الشرعية، والتي لم يجدها التراثيون بل لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث.
فنحن نعلم أن الحائض أو النفساء تدخل في عداد المرضى، وأن الرسول ﷺ رأى أنهما لا تصومان غالبا لهذا السبب، وحتى التي لا تحس بآلام شديدة لا تكون على ما يرام وقت الحيض بسبب انعدام توازنها الهرموني، إضافة إلى أنها تكون غير طاهرة لإقامة الصلاة.
بحسب ما تراءى لنا، فكما نعلم أن الحائض أو النفساء تدخلان في عداد المرضى، وقد أثبت العلم ذلك بشكل لا يخفى على المهتمين بالأمر، بل وحتى العوام يعرفون أن هناك من النساء من تشتد عليهم آلام الحيض، ومنهن من تكن طريحات الفراش...
فرخصة إفطار الحائض والنفساء، ربما بل غالبا كان اجتهادا للرسول ﷺ في المسألة، ورأى أنهما لا تصومان لهذا السبب الذي ذكرنا، وحتى التي لا تحس بآلام شديدة لا تكون على ما يرام وقت الحيض بسبب انعدام توازنها الهرموني، إضافة إلى أنها تكون غير طاهرة لإقامة الصلاة.
هذه فقط تصورات واستنتاجات، ولكن يبقى الدليل القاطع في هذه المسألة راجع إلى تواتر هذه الرخصة بشكل عملي منذ فرض الصيام إلى الآن، وجميع شروط التواتر العملي متوفرة، وبالتالي لا مجال لإنكار ذلك وتبرير الإنكار بأن الله تعالى لم يرخص للنساء الإفطار وقت الحيض والنفاس بطريقة مباشرة وصريحة في القرآن الكريم !!
فنحن نعلم أن هناك كثيرا من الأمور الفقهية لم تُذكر صراحة، وتُرك المجال فيها للرسول ﷺ للاجتهاد فيها، وإلا ما قيمة الحكمة التي آتاها الله سبحانه وتعالى له، وأين مجلات تطبيقها؟
3. الحج ومناسكه:
وطبعا نجد كذلك كأوضح مثال للتواتر العملي مناسك الحج التي لا يمكن كذلك أن تحرف لأنها مورست وما زالت لحد الآن بطريقة جماعية وسط عدد هائل من الشهود.، فبمجرد أن تقع محاولة تحريف عن قصد أو عن غير قصد حتى يلاحظ ذلك، فيتم تصحيح ذلك في حينه بعد تداول ذلك بين الحجاج.
وبالتالي فالحج من الأعمال المتواترة التي تناقلناه جمعا عن جمع في إشهاد تام وبدون انقطاع، وهذا ما نرد به على بعض الباحثين القرآنيين الذين ينكرون بعض المناسك التي لم تُذكر قرآنيا مثل الرجم وغيره.
وبعدما استعرضنا الشعائر التعبدية وما يدور في فلكها، والتي اعتبرناها من السنة الفعلية المتواترة للرسول ﷺ وبالتالي حكمنا أولا بصحة تواترها ثم بشرعيتها لأنها مؤصلة قرآنيا.
نأتي الآن لنذكر بعض الأمور الدينية التي تدخل في التواتر الفعلي ولكنها لم تُشرع قرآنيا، وهي من العادات الموروثة التي وردت في السنة الفعلية للنبي ﷺ:
الختان:
ختان الذكور:
هي سنة يعترض عليها بعض المعاصرين مما يُسمون بالحداثيين، وحتى بعض الباحثين القرآنيين، والذين يشترطون ورود أي شأن فقهي ديني في القرآن الكريم من أجل قبوله.
ونحن نعتبر الختان من السنن التي تواترناها عن الرسول الأكرم ﷺ، وتتحقق فيه كل الشروط والقواعد التي ذكرناها سابقا.
إضافة إلى أنها من ملة إبراهيم عليه السلام التي أمر الله رسوله ﷺ باتباعها.
ثم لا ننسى أن الختان أيضا سنة لدى اليهود وفي الغالب فقد توارثوها أيضا عن إبراهيم عليه السلام.
ونُذَكر بالمناسبة أن الطب الحالي لم يعترض على هذا العمل بل شجع عليه وما زال، وأغلب الأطباء حتى غير المسلمين يعتبرونه عملا صحيا يُجنب الوقوع في بعض الأمراض التناسلية، وبالتالي فالعلم كذلك يؤكد أن ختان الذكور سنة حميدة.
ختان الإناث:
في المقابل نجد أن ختان الإناث هو عادة لم تمارسه إلا بعض القبائل قديما، ولم يثبت تواتره العملي، إنما ارتكز على بعض الروايات الضعيفة وبالتالي هو فعل شاذ.
وما دام العلم أو الطب الحالي لا ينصح به بل اعتبره البعض جريمة في حق المرأة، وبما أن الدين لا يمكن أن يأتي شيء مضاد للعلم أو بما يضر بصحة الإنسان، فختان الإناث بدعة فاسدة.
كانت هذه بعض السنن العملية أو جلها والتي تواترت عن النبي ﷺ والتي أتينا بها كأمثلة توضح أن تواترها هو أكبر دليل على أنها ليس اختراعا بشريا وإنما هي سنة نبوية، بعضها تلقاها تعليما كالصلاة (عن طريق جبريل) والبعض الآخر أخذه عن سنة الرسل من قبله (ملة إبراهيم)، ومنها ما اجتهد في فهمها وفق الحكمة التي منحها إياه عز وجل وطبق بها شرع الله (مثل صيام الحائض).
هذا والله أعلم...
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))