التدبر القرآني بين الهجر و التكلف
منشور في : 2013-02-22
بعد أن فصلنا في الأجزاء السابقة، وبما فيه الكفاية، (لماذل تدبر القرآن الكريم، وكذا ما يجب معرفته قبل ممارسة عملية التدبر)، الغرض والمغزى من التدبر، وحسمنا بأنه فريضة على المسلم، ثم ذكرنا أن الكل معني بالتدبر ولا يُعذر أحد أو يُعفى، كل حسب مستواه الفكري والتعليمي، وأنه لا مناص من التدبر لمعرفة ديننا الحنيف، وعدم الإتكاء على فتاوى الفقهاء والمشايخ مهما كانت درجتهم العلمية، لأنه من الواجب تحمل المسؤولية في إدراك وتبني مفاهيم الدين الحنيف، ثم بعد ذلك حددنا أن التدبر المفروض هو ما يخص بعض القرآن لا كله، والمتعلق بالأحكام والعقيدة، وفقه الحلال والحرام، وحدود الله، نأتي الآن إلى أهم جزء من هذه الدراسة، وهو الخاص بالآليات أي المنهج والأدوات.
ولكن قبل ذلك، مازال في ذمتنا، سؤالان في غاية الأهمية، ولا بد من الإجابة عنهما، قبل الشروع في تقديم منهج وأدوات التدبر.
وفيه سنوضح الفرق بين التدبر العادي، أي تدبر المبتدئين، وبين التدبر المتقدم أي تدبر المتخصصين من مختلف العلوم.
1. هل تدبر القرآن الكريم يعني فقط فهم معاني الآيات، أم أيضا استنباط المفاهيم أو دلالات؟ :
مبدئيا، وإذا صح القول، فهناك نوعان من التدبر، تدبر عادي وآخر متقدم.
التدبر العادي، هو محاولة فهم معاني الآيات، وإيجاد مدلولها.
أما التدبر المتقدم فهو يتعدى ذلك إلى محاولة لاستنباط مفاهيم متجددة، أو دلالات أخرى غير المعنى المباشر، بالقيام بتحليل دقيق للآيات، وبحث معمق من أجل استجلاء معان خفية، يمكن أن تكون حلولا لإشكالات في مجالات متعددة، إما علمية أو تربوية أو اجتماعية أو اقتصادية.
2. هل هذا الاستنباط متاح للعامة أم محصور على الخاصة؟ ومن هم الخاصة؟ :
التدبر العادي متاح بالنسبة لعامة الناس بحسب اختلاف مستوياتهم الفكرية، وطبعا تبقى النتيجة مرتبطة بالمستوى الثقافي والتعليمي للمتدبر.
أما النوع الثاني من التدبر الذي يمكن من الاستنباط، فهو يحتاج إلى مستوى متقدم من المعارف والمدارك اللغوية، وكذا العلمية، والقدرة على المزج بينهما، ثم التوفر على رؤية متعددة الزوايا.
فالاستنباط يعني استخراج درر القرآن وكنوزه النفيسة، وهذا ليس متاحا إلا للخاصة، أي النخبة.
بناء على هذه الإجابات، نكون قد أزلنا الغبار عن إشكالية التدبر التي يمكن أن يتصورها المبتدؤون، وحسمنا بأن التدبر المطلوب من عامة المسلمين هو التدبر الأصغر الذي يقتصر على التعرف على الخطاب الإلهي، ومحتوى الرسالة التي بلغها بها نبينا الأكرم ﷺ، وما نحن مطالبين بتطبيقها بشكل رئيسي.
ونكون كذلك قد فهمنا وأيقننا أن التدبر ليس بالضرورة الاستنباط، الذي هو خاص بمن له نَفس طويل في الانكباب على كتاب الله، والغوص في أعماق الآيات الكريمة، لاستخراج اللآلئ والدرر الكامنة في أحشاءه.
لما كان التعامل مع القرآن الحكيم هو تعامل مع منظومة متكاملة يجب استيعابها، فأي خروج عن هذه المنظومة هو خروج عن المغزى الحقيقي لكلام الله ومكنونه.
ولذلك، فمسألة التدبر القرآني هي مسألة أصبح من الضروري تأطيرها بشكل يقطع الطريق امام من يتهافت عليها بدون أدوات منهجية علمية عقلانية، وفي نفس الوقت التأكيد على ضرورة الإقبال عليها بقلب المؤمن وبعقل رافض للتبعية ومتسلح بالمناهج العلمية.
هذه المرحلة جد مهمة، ويمكنها أن تقي من الخلط المنهجي الذي أصاب الفكر الإسلامي وفرقه إلى إيديولوجيات ومذاهب وتيارات بعضها متطرفة والبعض الآخر يحسب ذاك الاختلاف رحمة، ولا ندري أي رحمة في الاختلاف؟
- ما المنهج:
المنهج لغة هو الطريق أو الطريقة، وهو أيضا المنهاج كما جاء في القرآن الكريم، في قوله تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
ويمكن كذلك أن نصف المنهج بأنه خطة لتحقيق غاية معينة.
والمنهج الذي سوف نؤسسه، هو في حد ذاته تقنين لعملية التدبر وفق قواعد وأدوات، لكيلا يكون هناك زيغ ولا انحراف.
فهو إذن مجموعة من القواعد والخطوات مدعومة بالأدوات المناسبة لتحقيق النتيجة المرجوة من عملية التدبر.
وسوف أتطرق لهذه القواعد والأدوات باختصار، دون الغوص في مصطلحات فلسفية معقدة، لكي يكون الأمر أكثر بساطة وبالتالي يكون الإقبال على التدبر متاحا للأغلبية إن لم أقل عامة المسلمين.
أولا من الواجب أن نعلم أن هناك قاعدة كبرى تحكم منهجنا بقواعده وأدواته، وهي قاعدة : "القرآن يفسر بعضه بعضا"
يعني أن مفاتح القرآن توجد فيه، يكفي البحث والأهم التركيز وعدم التسرع.
وهذه قاعدة ذهبية فهمها علماء السلف أو بعضهم ودعا إليها، ولكن للأسف لم تُحترم على الأقل بشكل كاف، وتم هجرها إن أردنا أن نكون صريحين.
وهذا المبدأ يهمله الكثير ممن يدرسون القرآن، غير آبهين بأن القرآن لا يأخذ إلا كاملا متكاملا، ويؤكد ذلك قول الله تعالى :
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
ووصف سبحانه وتعالى من يفعل ذلك بأنه يجعل القرآن عضين، وهو ما يُسمى بالتعضية:
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ
وعلى أساس ذلك لا يمكن أن نبني قاعدة مستنبطة من فهم موضعي وفي نفس الوقت لا يستقيم في موضع آخر !!
وهذا المأزق يسقط فيه الكثير من الذين يتدبرون القرآن بشكل عشوائي.
سنبدأ بالقواعد والأسس التي لخصتها في الآتي:
1)هيمنة المدلول القرآني على المدلول اللغوي:
التركيبة الفريدة للقرآن الكريم أو بناء النص القرآني هو خاص به ولا يمكن أن يحاكيه أي نص إنساني.
ولذلك، ورغم أن استعمال اللسان العربي لتدبر القرآن الكريم أمر لا مفر منه، فمن الواجب فالأولى فهم القرآن من القرآن.
وعند استعمال اللسان العربي، لا يجب أن تطغى الدلالة اللغوية على الدلالة القرآنية، في حال وجود شبهة اختلاف بينهما.
أولا: لأن المعاجم اللغوية التي تعتبر في حد ذاتها مرجعا للغة، لم يكن لها وجود وقت نزول القرآن الكريم، فقد وُضع أول معجم (العين للفراهيدي) في القرن الثاني للهجرة، وكان أصحاب السليقة اللغوية آنذاك يفهمون الآيات وفق رصيدهم اللغوي الذي كان يختلف في بعض الأحيان من قبيلة لأخرى، وكان غالبا ما يتم الاستعانة بما حفظوه أو علموه من الشعر الجاهلي.
ثانيا: هناك مصطلحات قرآنية صرفة، لم يستعملها العرب ولا يعرفون لها سبيلا، كمصطلح الروح.
ثالثا: كل المعاجم الموجودة تحتوي على معاني تم الرجوع فيها إلى تفسيرات قرآنية سابقة، فكيف يتم الاحتكام إلى معاجم ليست مرجعا أصليا في حد ذاتها.
إن المدلول القرآني يأخذ بعين الاعتبار جوانب عديدة أولها المفهوم اللغوي، مرورا بالبناء النصي أو السياق، ثم المناسبة التاريخية، ويمكن أن يستأنس في بعض الأحيان بالحقيقة العلمية.
وكل هذه الجوانب تجعل من الدلالة القرآنية مهيمنة على الدلالة اللغوية، وفي الغالب لا يتكون إشكال إلا في حالات معدودة.
وكنتيجة للمقاربة، يتم في الأخير استنباط مفهوم لغوي جديد بناء على المدلول القرآني، وهذه من ثمرات التدبر.
يجب أن نذكر أن النص القرآني هو تعبير إلهي لا يجوز فهمه وإدراكه كتعبير إنساني عادي، خصوصا في النصوص الغير محكمة، فالقواعد التي تسري على النصوص الإنسانية ليست بالضرورة صالحة للنص القرآني.
فمثلا لا يصح تطبيق قواعد لغوية مرتبطة بالزمن على بعض الآيات، فالماضي في كتاب الله لا يعني بالضرورة الماضي الذي يحكم النص الادبي الإنساني.
أنظر قوله تعالى :
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ
أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ
لا يعني أن ذلك قد وقع، ولكنه سيقع في المستقبل، ولكنه يعتبر ماضي بالنسبة للعلم الإلهي، وسيأتي مقال لنا في موضوع مفصل عن الزمن في العلم الإلهي.
2) قاعدة تقاطع الآيات:
هي بكل بساطة، حصر كل أو بعض الآيات التي تتطرق لمصطلح لغوي بُغية تجميع المعاني ومقاربة بعضها ببعض، حتى يتضح لنا التوصل إلى المفهوم أو مجموعة من المفاهيم التي يمكن أن نستنتجها من عملية التدبر.
وهذه القاعدة من أهم القواعد التي تشكل منهج التدبر، لأنها تشكل مفتاحا رئيسيا للقاعدة الكبرى: "القرآن يفسر بعضه بعضا"
وفي الأمثلة التي سنأتي بها، سوف نطبق هذه القاعدة ليتضح لكم جليا أهميتها، وكيف أن بعض المفسرين أو معظمهم أهملوا هذه القاعدة، واتكأوا على أقوال الصحابة أو بالأحرى ما وصلهم من روايات.
3) تطبيق مبدأ الاستدلال قبل الاعتقاد:
هذا مبدأ أساسي بل وضروري لتبيان للحقيقة.
خلافا لما هو سائد لدى الفكر التراثي التقليدي، فلا يجب أن يسبق الاعتقاد استدلالَنا وحُكمَنا على الأشياء، وإلا أصبح الهدف والغاية هما خدمة تيار أو مذهب أو فكر معين وليس خدمة الأمة الإسلامية جمعاء.
ما معنى ذلك؟
معناه، أن يتم إنزال المعاني التي يراها المتدبر أو المفسر أنها مناسبة لاعتقاده المسبق بفكرة ما، ثم يحاول الدفاع عنها بتطويع الآيات لتُطابق فهمَه وخيالَه.
الإقبال على تدبر القرآن الكريم، من بين أهدافه الأصلية هو البحث عن الحقيقة، والحسم في خلاف موجود بين آراء عديدة منتمية لتيارات فكرية أو مذهبية.
فالمفروض هو التجرد من التعصب والتخلص من الأحكام المسبقة ومن الأفكار المؤثرة التي ستمنع أي تدبر مثمر ولن يبقى لهذا التدبر أية فائدة مادام المتدبر واقعا تحت تأثير معتقداته السابقة.
سأذكر مثالا لآية مختلفة التفسير بين المذهب السني والشيعي، وفيه سنضرب مثالا لما نحن بصدد قوله (الاستدلال قبل الاعتقاد).
فما هو معروف، فكثير من تفسيرات الشيعة لبعض الآيات القرآنية لها اعتقادات مسبقة وتخدم مذهبهم بشكل رئيسي، كقضية الإمامة، وكقضية أهل البيت التي سوف نأخذها كمثال للقاعدة قيد الدرس، وفي نفس الوقت سوف نتدبر الآية الخاصة بها، باستعمال قواعد بسيطة وواضحة، وبذلك نكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد.
الآية 33 من سورة الأحزاب، قوله تعالى:
وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا
المتدبر الواعي لهذه الآية، والمتجرد بأي فهم أو اعتقاد مسبق، سوف يفهم أن المقصود بأهل البيت نساء النبي، لماذا؟
بكل بساطة لأن الآية كما هي الآيات التي قبلها (30 و 31 و32 ):
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ .....
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ......
فالآيات عبارة عن وصايا وأوامر من الله تعالى لنساء النبي، وفي تطبيقهن لذلك، وعد بأن يُذهب عنهم الرجس ثم بعد الخطاب سمى المعنيين بالأمر "أهل البيت".
من هم نساء النبي؟ هن أزواجه وبناته، لأنه عز وجل لم يذكر عبارة "أزواج النبي" بل "نساء النبي" وهي تشمل كل من تحت رعايته من إناث بالغات. وإن كان الأصل هن فقط أزواج النبي (هذا رأينا).
ودليلنا، مستقى من آية أخرى، وهنا سوف نطبق قاعدة تقاطع الآيات، لكي نستبين المفهوم القرآني.
والآية الأخرى هي قوله تعالى:
يَٰوَيْلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ﴿72﴾قَالُوٓا۟ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُۥ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴿73﴾
نفس الشيء هنا، فالملائكة الذين بعثهم الله إلى إبراهيم، خاطبوا سارة زوجة إبراهيم بلقب "أهل البيت"، وهذا ما يدل على قولنا السابق.
وهذا رأي بعض أهل السنة والجماعة والذين أضاف البعض الآخر كل من هم ببيت رسول الله ﷺ.
وتبقى كل هذه الأقوال والتفسيرات مقبولة إلى حد ما.
ولكن الذي يعتبر قولا شاذا، هو تفسير الشيعة، فهم يعتبرون أن أهل البيت فقط هم على وفاطمة، والحسن والحسين، وهذا وهم واضح ومجرد تشيع لا يقبله لا عقل ولا حكمة.
وهذا هو الاعتقاد قبل الاستدلال، فاعتقاد الشيعة المبني على روايات مثل "حديث الكساء" هو ما جعلهم يفهمون "أهل البيت" بذلك الفهم المتعسف، بل أضافوا كل أئمتهم، فاعتبروا أن العصمة لهؤلاء جميعا !!!!
والامثلة كثيرة، فقط أردنا أن نضرب مثالا، ونشرح مبدأ الاستدلال قبل الاعتقاد، وبالتالي نبين ضرورة أن نستحضر البراهين والقرائن قبل الاعتقاد بفكرة أو تكريس مفهوم لآية قرآنية، وليس العكس.
4) رؤية 360 درجة:
الكشف عن بعض التصورات بناء على تدبر عميق، هو شيء جميل، ولكن التسرع في استنتاج بعض المفاهيم وعرضها بشكل نهائي دون الإحاطة بكل ما يتعلق بالقضية موضع البحث إحاطة شاملة، خصوصا إذا كانت منافية لما أتى به الموروث، هو شيء مرفوض قطعا، وغالبا ما يفسد عملية التدبر، ويفضي إلى ترهات ومغالطات وربما خزعبلات وشطحات فكرية مضللة.
وهذا الخطأ يقع فيه أغلب الذين تعاطوا للكلام عبر المنابر الالكترونية، فبمجرد أن يتم البدء في تدبر معاني الآيات وتفسيرها، وفور اكتشاف أمر بالصدفة أو معنى مخالف للموجود وفي بعض الأحيان يكون متعسفا يطوع صاحبه الآية لملاءمة المفهوم المراد تكريسه، فيسارع إلى نشره والخروج به وكأنه اكتشاف عظيم، دون إحاطة كاملة بجميع جوانبه.
وهذه الإحاطة، هي رؤية الآية موضوع التدبر من عدة زوايا، وهذا ما نقصد برؤية 360 درجة (هي مجموع قياسات زوايا الدائرة)، وأول زاوية هي تطبيق القاعدة السابقة (تقاطع الآيات)، ثم الزاوية التاريخية أي مناسبة النزول، ثم زاوية المنطق، ثم إن كان ولابد زاوية العلم.
أي إهمال لهذه الزوايا، هو يُعتبر تسرعا سوف يؤدي حتما إلى سقوط سريع للفكرة وللمفهوم المراد إيصاله، لأنه لم يتأسس على تدبر متأني واعي.
أمثلة:
- استنتاج أوقات الصلوات من آيات الاستئذان (صلاة الفجر وصلاة العشاء) من طرف بعضهم كمحمد هداية أستاذ بكلية الازهر.
- إعطاء معاني شاذة لكلمات بسيطة ومتداولة (النساء، البنون،....) المفكر الراحل محمد شحرور.
في المثالين السابقين، نؤكد أنه لم يتم احترام قاعدة رؤية 360 درجة، وكان هناك تسرع في الاستنتاج دون الإحاطة بالموضوع.
5) الفهم المتجدد المتناسق مع النظم المعرفية المتطورة:
طبعا هنالك شروط أساسية يجب التوفر عليها وهي الإلمام بهذه النظم المعرفية التي تتطور باستمرار، وأقصد بهذه النظم، تلك التي تحدد السقف المعرفي للمتدبر، فلكل عصر نظم مختلفة وإن كانوا يشتركون في بعضها، كالمنطق والقيم.
كذلك فهذه النظم يجب ألا تنحصر في الثقافة المحلية أي العربية، بل يجب أن تكون عالمية، فالقرآن مُنزل على الناس أجمعين، والرسول بُعث رحمة للعالمين.
المهم أن تكون لنا القدرة على تدبير المعارف التي اكتسبناها وتوظيفها في فهم آيات الذكر الحكيم، دون الخروج عن ثوابت الدين.
هذه القاعدة تنطبق أكثر على الآيات الكونية التي تحتاج إلى علوم تتجدد باستمرار لكي نفقه مفهومها أو على الأقل إلى ما تشير إليه هذه الآيات.
لمعلوماتكم فقط، تُقدر الآيات الكونية في القرآن الكريم بنحو الألفي آية، تقريبا ثلث القرآن!!
وليس فقط هذا، بل فيها إعجاز علمي، وليس مجرد آيات للتلاوة، وطبعا لا أحتاج للتذكير وكما قلت من قبل في حلقة الإعجاز العلمي القرآني أن هناك من يُنكر الإعجاز العلمي سواء من بعض أنصار الفكر التراثي التقليدي أو من طرف بعض أنصار الفكر القرآني (كما يُسمون)، ولذلك أكرر أننا بحاجة إلى فكر وسطي.....
6) التعامل بواقعية أكثر مع التنزيل الحكيم:
المفروض في التعامل مع معنى آيات القرآن الكريم أن نتوخى فهمها على ضوء الواقع المعاش، أي مع أخذ بعين الاعتبار الظروف الزمكانية التي يعيش فيه المتدبر، وليس على ضوء ما عاشه أسلافنا.
وهذا لا ينطبق على كل القرآن، فبعضه مرتبط ارتباطا وثيقا مع الظروف الزمكانية للرسالة، ولا يمكن فهمه إلا من خلال الأحداث التاريخية، ولكن في نفس الوقت يمكن أن تكون العبرة ممتدة وصالحة لما بعد الفترة الزمنية التي نزل فيها، والبعض الآخر يجب أن يُرى بعين الواقع.
كذلك يجب أن نضع أمام نصب أعيننا عالمية القرآن الكريم، مصداقا لقوله تعالى :
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
فالعالم باختلاف شعوبه مطالب بأن يلمس مصداقية القرآن ولو بعضه، وبالتالي يتعين فهمه بثقافة عالمية وليس فقط بثقافة عربية.
وبالتالي فمن الخطأ إسقاط معاني الآيات على الثقافة العربية والبيئة العربية وما عاشوه العرب كقوميات وشعوب.
أمثلة:
- يضعن خمرهن على جيوبهن
هنا الأمر أتى بتغطية جيب المرأة أي فتحة الصدر، وليس الأمر بوضع الخمار.
والتعامل بواقعية مع الآية، هو أن نعرف أن الخمار هو لباس المرأة آنذاك، وجاء الأمر لاستعماله في تغطية الجيوب، والتطبيق في الواقع الحالي، هو ليس بالضرورة استعمال الخمار لذلك، بل يمكن أن يكون هناك لباس خاص يقوم بنفس الدور، وهو ما ترتديه النساء في وقتنا الحالي (سواء كان جلبابا أو قميصا أو غيره.
7) عدم المغالاة في ممارسة عملية التدبر :
التدبر يجب أن يأخذ في البداية أسهل الطرق، ثم بحسب درجة استشكال الآية القرآنية، يمكن سلوك طرق أخرى لتبيان المعنى الصعود في مستوى البحث لحين الوصول إلى نتيجة مثمرة.
ولكن هذه العملية يجب ألا تأخذ طريقا وعرا منذ البداية، أو أن تتعسف في التفسير، أو أن تغالي في الغوص في متاهات لغوية، أو أوهام معرفية يمكن أن تسقط في فخ التأويل، كما بيننا سابقا، وذكرنا كمثال التفسيرات الباطنية.
ولكي نشرح أكثر نقدم بعض الأمثلة عما يُسمى بالتفسيرات الباطنية التي كان أهم روادها في الماضي طائفة الإسماعيلية.
هم من الشيعة، لهم تفسيرات باطنية شاذة بل ومضحكة لبعض آيات القرآن، مثل:
(اهدنـا الصراط المستقيم)، قال ابن حيون الباطني الإسماعيلي، «والمراد منها الإمام»
وفي قوله تعالى: (وألنـَّا له الحديد)، قال: أي سهلنـا له صعب الكلام.
وفي قوله تعالى: (ولها عرش عظيم)، قال: أي دعوة كبيرة.
وفي قوله تعالى: (اذهب بكتابي هـذا فألقه إليهم)، قال: الكتاب الرسول ومن أقامه مقامه.
وفي قوله تعالى: (ولقد أتيناك سبعا من المثاني)، قال: يعني الأئمة السبعة.
والكثير الكثير من الشطحات الموجودة في كتبهم.
هذا النوع من التفسيرات هو مغالاة في تدبر كلام الله، وهو مرفوض مطلقا لأنه لا يستقيم لا لغويا ولا منطقيا، ولا ينهجه إلا من يريد أن يفرض رأيا أو حكما مسبقا، ويأتي بآية توافق هواه.
فأي تدبر لكلام الله لا يجب أن يسلك هذا المسلك، لأن فيه ضلال وإضلال.
في الجزء الموالي، سنأتي بحول الله على أدوات التدبر القرآني.
** الكاتب : وديع كيتان **