بعد أن تطرقنا لعملية النقد من الناحية النقلية ثم العقلية اعتمادا بالأساس على المقاربة القرآنية، نخوض في القضية من الناحية التاريخية باحثين في أصل وزمن تدوين الحديث.
ليس لدينا حتى اليوم أي مستند صحيح يثبت أن هذا التدوين بدأ بنحوٍ رسميٍّ في زمن حضرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ ، ومن المسلّمات التاريخية التي لا ينكرها أحد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ لم يتّخذ أشخاصاً معينين يأمرهم بجمع وتدوين أحاديثه كما فعل بالنسبة إلى تدوين آيات القرآن الكريم.
بل كما يُستفاد من بعض الأحاديث التي روتها كتب السنة و الشيعة، مَنَعَ رسولُ الله صحابَتَه من فعل ذلك، كما يدل على ذلك الحديث الذي رُوي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
وقد أنكر بعض السلف هذين الحديثين و البعض الآخر حاول تفسيره بطريقة "ميتافيزيقية" لكي يفند المعنى الحقيقي وهناك من أتى ب "جوكر" الناسخ و المنسوخ وقال بأن هذا الحديث منسوخ بحديث آخر يدعو إلى تدوين الأحاديث.
ونقول أنه حتى ولو هضمنا مسألة نسخ الحديث بغيره فيحق لنا التساؤل :
لماذا جمع أهل الحديث الحديثَ المنسوخ وهم يعلمون الحديث الناسخ ؟ فهو ليس قرآنا لكي يتحججوا بالاحتفاظ بكل ما روي بناسخه ومنسوخه !!!
ولماذا نهى الخلفاء الراشدون عن تدوين الأحاديث بعد موت النبي (ص) ونحن نعلم أن أبا بكر وعمر أحرقا صحفا تحتوي على بعض منها كما روى الثراث ؟
ثم لماذا تم إهمال رواية الأحاديث المتعلقة بالعهد المكي الذي دام لفترة ثلاثة عشر عاماً ؟؟
ولماذا تم إهمال رواية معظم خطب الجمعة التي خطبها النبي (ص) ؟
ويبقى الدليل القاطع على ما قلنا هو أن التدوين لو تم في عهد الرسول لما وجدنا معظم الأحاديث إن لم نقل كلها تبدأ بكلمات : "حدثنا" – "سمعنا" – "أخبرنا" !!!!، وليس قال النبي، أخبر رسول الله (ص)...
على العموم صدقنا الحديث السابق أم لا، فإنما استشهدنا به لمجرد الاستئناس ومن باب " إلزام المخالف بما يعتقده " و عملا بمبدأ « شهد شاهد من أهلها «، وما سنقدمه من قرائن في هذا الموضوع سيغنينا عن الاستدلال به.
المهم أن في غالب الظن وباعتراف أكثر السلف، فقد بدأ تاريخ تدوين الحديث في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أي بداية القرن الثاني الهجري، وأما أغلب الكتب المعتمدة وعلى رأسها صحيح البخاري، فلم تخرج إلى النور حتى القرن الثالث هجري، وقبله كتاب الموطأ للإمام مالك المصنف سنة 179ه.
وقد بدأ تدريجيّاً وبشكل منفرد، فكان كل عالم في مدينته يقوم بتدوين ما سمعه من الصحابة ومن حفظ عنهم. فكانوا يجمعون كل ما يعتقدون حسب فهمهم أنه صحيح بل لم يراعِ بعضهم صحة وسقم ما يدوّنه بل قام بجمع كل ما وصل إليه.
وسيأتي فيما بعد عرض لحالة تدوين صحيح البخاري كمثال لذلك ولكونه يعتبر بالنسبة للمدرسة السنية التقليدية أي غالبية المسلمين "أصح" كتاب بعد القرآن الكريم !!
ونعود للسؤال الذي يطرح نفسه :
لماذا منع تدوين الحديث في عهد رسول الله و عهد الخلفاء من بعده ؟
يتحجج أهل الحديث أو يبررون ذلك المنع بأنه كان خشية أن يختلط القرآن بالحديث !!!
هذه الحجة غير مقنعة مادام أنه كان من الممكن أن يُجمع الحديث بمعزل عن القرآن خصوصا عندما أصبح هذا الأخير محفوظا في قلوب الصحابة ومن نقلوه قبل أن يكتب الوحي على صحف خاصة بشكل رسمي بأمر من رَسُولَ اللّه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان بالإمكان أن يخصص لتدوين الحديث مدونون آخرون أو على الأقل أن يتم تدوينه بعد الانتهاء من تدوين وجمع القرآن بزمن قليل، أما أن تمر سنوات تقارب القرنين من الزمن حتى يبدأ الجمع والتدوين، فهذا مالا يقبله عقل و لا منطق !!
في نظري يبقى السبب القوي - من الناحية العقلية والمنطقية – لمنع تدوين الأحاديث من طرف رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو تيقنه كما تيقن من بعده الخلفاء الراشدون والصحابة أن هذا الأخير لن يبقى في منأى عن التحريف و الوضع كما فعل اهل الكتاب من قبل من خلال تحريفهم للكتب السماوية كما هو معلوم فالأحرى بكلام الرسل.
فمع تقادم الزمن وضعف التوثيق لا يسلم أي قول أو رواية أو حديث من تحريف أو تلفيق بعد أن يتداول بين الناس.
كما أن السبب الآخر لهذا النهي كان خشية أن يهجر الناس القرآن ويتبعوا كتابا آخر يتمتع بقدسية مماثلة.
و هذا يؤكده قوله تعالى :
والتحريف الذي خشي أن يطال الأحاديث هو ما وقع فعلا فقد تعرضت الروايات للتحريف، ودس فيها أعداء الإسلام وخصوصا اليهود أحاديث تخدم مصالحهم على المدى القصير والبعيد. وهذا معروف لدى الجميع وقد تمكن أهل الحديث من وضع يدهم على البعض منها وليس كلها مع الأسف وهذا ما سمي بالإسرائيليات، أما الباقي فلم يساعدهم " علم مصطلح الحديث " في الكشف عنها.
إن نقدنا لهذه المسألة لا يمكن أن يخلو من جانب مهم وهو محاولة تحري الأسباب المحتملة لجمع وتدوين الأحاديث، والتي في رأيي لا تخرج عن السببين التاليين:
الأول عن حسن نية : و كان المبرر حينئذ هو الحفاظ على ما سنه وبينه النبي صلى الله عليه وسلم طوال فترة البعثة، خصوصا في عصر الفتن وفي عصر الترف الفكري الذي تميز بخوض المتكلمة والمعتزلة في عالم الملكوت الغيبي وتأويل القرآن على أساسه، مما شكل بالنسبة لأهل الحديث خطرا على الدين، وهذا مبرر أريد به حق ولكنه باطل من الناحية التأصيلية .
كذلك نجد تقادم الزمن واضمحلال الذاكرة وموت الحفظة وانتشار العلماء في مختلف الأمصار من بواعث عملية التدوين.
الثاني عن سوء نية : و كان المبرر سياسيا بالدرجة الأولى بعد أن أصبحت هنالك ضرورة بالنسبة للمعاصرين لتلك الحقبة الذي تم فيها الجمع و التدوين، وذلك من أجل سد الباب أمام كل التأويلات القرآنية التي كانت تؤثر في استقرار الدول الإسلامية حينئذ، سواء سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا.
فكان لازما أن تدون أحاديث بل ويختلق بعضها ويكيف وفق أهواء ومصلحة القائمين بأمر الناس تحت مظلة فقهاء البلاط.
وهذا يظهر بشكل جلي في كثير من الأحاديث سواء عند السنة أو الشيعة، فقد اتهم بعضهم بعضا في مسألة وضع الأحاديث، ونجد هذا في كتبهم بشكل واضح وبين.
بل أكاد أجزم أن الأحاديث هي من صنعت المذاهب بشكل رئيسي.
وهنا لابد أن نشير إلى أنما قلنا لا يتعدى استقراءا تاريخيا للقضية مادام ليس هناك شيء موثق.
فعامل الزمن واختلاف المصادر لا يمكننا من ضبط الأحداث ومعرفة الحقيقة في تلك الحقبة الزمنية بأي حال من الأحوال ما دمنا لم نستطع فعل ذلك حتى بالنسبة لتاريخنا المعاصر.
وعلى ضوء ما قلنا بخصوص تاريخ جمع وتدوين الأحاديث أو الروايات ألا يحق لنا أن نتساءل:
ما دمنا لم نقدر على ضبط تاريخنا الحديث في ظل وسائل تقنية مساعدة، فكيف أمكن التحقق من صحة أو مصدر روايات نقلت بعد حوالي مائتي سنة من صدورها ؟
طبعا من الصعب بل من المستحيل التأكد يقينا من صحة هاته الروايات وخصوصا بالاعتماد على أسس مرتبطة بالعامل البشري كمسألة "السند" الذي قام عليه مصطلح الحديث بشكل رئيسي والذي سنتطرق إليه في نقدنا لما يسمى ب"علم مصطلح الحديث".
مسألة جمع البخاري للأحاديث :
إن دراستنا لحالة البخاري بالذات ليس فيه أي اعتبارات أخرى غير أنه يعتبر مرجع الحديث الأول بالنسبة لغالبية المسلمين، ويفترض أنه إضافة إلى صحيح مسلم أصح كتاب في الحديث وأكثره التزاما بشروط صحة الحديث.
أثناء بحثي في الشق التاريخي لقضية تدوين الأحاديث قمت بهذا التحليل البسيط لحالة البخاري في جمعه للروايات والتي طالما شككت في الرقم الخيالي الذي ذكره التاريخ بخصوص عدد الأحاديث المجموعة.
1. حياة الإمام البخاري كانت بين 194 و 256 هجرية.
2. جمعه للأحاديث بدأ سنة 210 هجرية أي في سن السادسة عشر كما يقال ولا أدري هل في 16 سنة يكون المرء قادرا على الخوض في علوم الدين !!!وسنقبل بذلك مرغمين.
3. توفي عن سن 62 سنة.
نستنتج أن المدة التي قضاها في جمعه للأحاديث هي 46 سنة.
أما إذا اخذنا بعين الاعتبار انتهاءه من تأليف كتابه الصحيح الجامع وهو ما يعرف بصحيح البخاري، والذي كان قد عرضه على ثلاثة من شيوخه وهم : الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني، ومادام أكبر هؤلاء الشيوخ و أول من مات منهم هو يحيى بن معين المتوفى سنة 233 ه، فهذه السنة كانت إذن هي تاريخ انتهائه من تأليف صحيحه على أبعد تقدير.
فتبقى مدة جمع ذاك الكم الهائل من الأحاديث (600 ألف حديث) هي 23 عاما (بين 210 و233 ه)، هذا دون أن نركز على قول البخاري نفسه :
) أخرجت هذا الكتاب يعني الجامع الصحيح من نحو ستمائة ألف حديث و صنفته في ستة عشر سنة و جعلته حجة بيني و بين الله (
والذي يجعلنا نعتبر فقط 16 سنة كمدة لجمع وتدوين الأحاديث.
ومع ذلك سنأخذ مدة 23 سنة كأبعد تقدير.
وبعملية بسيطة وبقسمة العدد 600.000 حديث على 23 سنة نجد أكثر من 26.000 في السنة، يعني 72 حديثا في اليوم !!!
هذا يعني أن على البخاري أن يكتب في المتوسط ثلاثة أحاديث كل ساعة.
هذا دون أن نحتسب نومه ومرضه وأكله وشربه واغتساله وصلاته وقيامه وقضاء حوائجه وتربية أبناءه وإعطاء زوجته حقها وعمل أشياء أخرى. من قبيل تأليفه لعشرين مصنفا كما ذكر التراث.
أما إذا احتسبنا المدة الكافية لذلك وقدرنا لذلك بمعدل 12 ساعات يوميا وذلك قليل، نجد بقسمة 72 على 12 ساعة نجد ستة أحاديث على الأقل كل ساعة !!!
وكتابة الحديث يدخل فيها البحث عن الراوي والتحقق من ثقته وسماعه وتدوين الحديث، وقد قيل أنه كان يقطع مسافة شهر لمقابلة الراوي، وأنه كان يصلي ركعتين قبل كل كتابة حديث.
هل هذا معقول ؟؟؟
أعتقد أن هناك مبالغة غير معقولة في عدد الأحاديث التي جمعها البخاري والتي قدرت بستمائة ألف حديث.
ما نريد أن أصل إليه، إضافة إلى عدم قبول ذلك الكم الهائل من الروايات، هو انه من المستحيل أن يتم التحقيق فيها في هذا الزمن القصير ومن طرف شخص واحد.
التفسير الوحيد هو أن السلف لم يكن لهم ذلك الحس النقدي ولم يعقلنوا نقلهم للروايات وما يدور في فلكها فكان هناك حشو لروايات كثيرة لم يُحترم فيها أي منهج ولا أية قاعدة علمية مقبولة ولا حتى قواعد مصطلح الحديث الموجودة والتي سوف نضعها تحت المجهر في الجزء الموالي.
فلا أرى مانعا وفق ما شرحناه سابقا من أن ننزع من صحيح البخاري تلك القدسية التي تحاط به، وأن نصرح بكل ثقة أن أي كتاب ماعدا كتاب الله عز وجل هو محط شك وقابل للنقد والمراجعة.
** الكاتب : وديع كيتان **
لمشاهدة حلقة اليوتيوب الخاصة بالموضوع :
شارك برأيك .. وتذكر قول الله سبحانه وتعالى ((ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد))